سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأربعاء، يونيو ١٣، ٢٠٠٧

من الأكاديمي الموظف إلى محترف الفلاشات


الشحوب التدريجي الذي ميز آخر معزوفات المجلس الأعلى للثقافة المصري ممثلاً في مؤتمر الشعر العربي الأخير كان الرقصة الأخيرة في المسار الطبيعي لأداء أمينه العام جابر عصفور. فضيحة مؤتمرية تحدث عنها القاصي والداني، أداء مجوف يناسب بجعة عرجاء أبت أن تنهي مسيرة ترنحها إلا بالمشهد المفارق، فلم يكن إرتجال وفضائحية أداء الديكتاتور أحمد عبد المعطي حجازي مستغرباً في ظل إرتخاء القبضة المتحكمة بأداء المجلس وهي تشيّع إلى مثواها الأخير، المؤتمر الفضيحة سربت في أروقته معالم إنتقال سلس لقيادة المؤسسة العريقة من "عصفور" إلى علي أبو شادي، فيحل الناقد السينمائي والرقيب السابق محل الأكاديمي المدهش وسائس العزبة الثقافية الذي أدخل المثقفين عنوة إلى حظيرة الدولة. إنتقال السلطة من جابر عصفور إلى علي أبو شادي في أمانة المجلس الأعلى للثقافة، هو إنتقال في المعنى والوظيفة، مشهد جديد تشيّع فيه الثقافة المصرية الرسمية مرحلة لتدشين أخرى، بينهما تقبع السلطة الثقافية ممثلة في وزير الثقافة كقائد أوركسترا ماهر يخرج من كورس جوقته من يصلح لتحويل الثقافة إلى مناسبة لإلتقاط الصور التذكارية. الثقافة الرسمية المصرية ها هي ترحّل مسؤوليتها إلى يد الموظف الكبير القانع تحت يد ضربات القدر الوظيفي كأحد أهم عرائس الماريونيت التي أنتجها مصصم الدمى الثقافية جابر عصفور. ففراغ المؤسسة بعد ناقدها الكبير ظل سؤالاً صعب الإجابة في ظل ندرة الشخصيات القادرة على إستكمال مشروع جابر عصفور التاريخي، كذلك أعتبره البعض سؤالا إجباريا بعد أن تعرض الوزير أخيراً لأزمة الحجاب، وهي الأزمة التي أعادت إلى السطح إنتهاء صلاحية مشروع جابر ذاته المراهن على دولة تحتاج ضميراً ثقافياً لمواجهة أزماتها. فكما هو معلوم شكل مشروع جابر عصفور منذ بداية التسعينيات محاولة لتجييش المثقفين حول النظام الساسي في مواجهته الفكرية مع قوى الإسلام السياسي، وهو الدور الذي لعبه مجلس عصفور تارة بإسم مشروع "التنوير" وتارة بإسم "المواجهة"، ليخرج مثقفي مصر كمشاة إحتياطيين في معركته الفكرية، يصاب فيها كثير ممن آمنوا بمدنية الدولة أمثال "نصر حامد أبو زيد" المقتول معنويا، وفرج فودة المذبوح واقعياً، وكثيرون اصابتهم شظايا المعركة فأعادوا دفن رؤوسهم في أروقة المجلس المكيفة تحت مسميات لجانه وبدلات إجتماعاته وتنافسات على التمثيل في السفر في مؤتمراته. جابر عصفور وحده بقي، ومن بعيد، منظّراً وحيداً لعصر مصالح المثقف مع الدولة مانحا باليمين ومانعاً باليسار، شخصية لا خلافية واقعياً. يحترمه الكثيرون لشبكة علاقاته الواسعة عربياً ودولياً ونظافة يده المالية وصدقيته الذاتية في طرح أيديولوجيا الدفاع عن مصر التي في خاطر كل مثقف وطناً لليبرالية والحرية. يحترمه طلابه ـ وهم شباب الحركة الثقافية المصرية الآن ـ كناقد كبير ويفصلونه عن صورة الإداري البارع مخافة أن يظلموه ناقداً وإدارياً. ورث ببراعة وإستحقاق الدور الوظيفي للمثقف وفقاً لآلية الإحتواء السياسي الستيني الشهيرة التي راهنت، منذ هندسة يوسف السباعي وثروت عكاشة، حدود إستقلال المثقف عن الدولة في معادلة المنح والمنع، وهو المهندس غير اللامع سياسياً الذي لم يستثمر إنضواءه تحت راية وزير الثقافة في ترجمة طموحه خارج حدود دوره كموظف كبير. لا ترضى عنه الجهات النافذة سياسيا لما يمثله من تعالي المثقف، ولا تعرفه الجماهير خارج قلعته الكائنة في ساحة الأوبرا وجل حلمه أن يرث بعضاً من علاقة وزيره بسيدة مصر الأولى فتوليه مشروعاً دولياً للترجمة يصلح ككارفان لأيام الشيخوخة. لم يتجاوز العصفور حدود شجرته الوافرة، والتي هي تحته قد تعرضت للجدب، فبقيت الثقافة الرسمية خارج قلعته الوظيفية حكراً في مناصبها العليا على الجنرالات من أمثال ناصر الأنصاري وأحمد نوار، وغلب أداء الثيوقراط الثقافي على طموح الأكاديمي في توسيع هامش المتنورين داخل مؤسسات الدولة، حتى حين طرح وريثه الشرعي وتلميذه عماد أبو غازي لولاية منصبه في المجلس الأعلى للثقافة، إرتأى الوزير في التلميذ مجرد رجل ثان في عباءة شيخ جليل. فعماد أبو غازي أصغر مقاما وأقل بريقاً مما يجب لشغل هذا المنصب، خاصة وأنه إرتضي منذ سنوات العيش في جلباب جابر عصفور ودوره، هذا فيما كان الجلباب ذاته يضيق على صاحبه. لم يتبقَ للعصفور من خيارات إلا علي أبو شادي المتمرغ في تراب ميري الوزارة منذ سنوات طويلة، والمتنقل رغم الأزمات العنيفة ـ كان مسؤولاً عن هيئة قصور الثقافة في عصر الروايات الثلاث ورواية حيدر حيدر الشهيرة ـ من منصب إلى آخر دون أن يترك أثراً واضحاً على أي منها.علي أبو شادي ينتمي إلى ذلك الفصيل من المثقفين مزدوجي الهوية، رقيباً على السينما يراعي "المجتمع" في ما يقصه من المشاهد، مدافعاً عن بعض الأعمال بلا مبرر ومنزوياً في الظلام لرقابة أعمال أخرى. يعشق فلاشات الكاميرا وتحوطه نجمات الربيع المنقضي للسينما المصرية. لم يعرف عنه، فيما عدا كتابين قديمين عن السينما والسياسة والرقابة، أي إبداع أكاديمي حديث أو مواقف صدامية مع سلطة السياسة أوسلطات المجتمع، ولاء براجماتي لوزير الثقافة وكثير من الشغف التلفزيوني. إنه ببساطة الصورة التجارية من كوادر مثقفي مشروع جابر الكبير، فلا الشجرة أثمرت جيلاً ثانياً يصلح للوراثة الصعبة، ولا المعادلة العصفورية ـ نسبة لجابر عصفور ـ بقت على حالها. فآخر ما يفكر فيه النظام ـ في حمى معاركه الواقعة الآن ـ أن يستعين بمثقفين في معركة على شارع يفيض بالحس الإسلامي. المثقفون ما زالوا حبيسي "فاترينة عرض" الشو الدولي والإقليمي. بعضهم يصلح للإستعراض المحلي، بعضهم مناسب للوجاهة الإقليمية، والبعض مبيض للسمعة الدولية، لكنهم خارج حدود تلك الفاترينة لا دور لهم في مجتمع يرى الكلمة عيباً جارحاً، أو عرضاً لمرض غريب، أو معنى للإنحلال وتراجع القيم، إنها الثقافة كما إنتهي إليها مشروع جابر والوزير... شجرة جرداء تنعق فوق فروعها غربان سود كثيرة.

عندما صرخ الجحش: عليَّ الطلاق دي "دو" مش "دزز" يا حمار


خرج الأستاذ محمد الجحش على المعاش منذ ثلاث سنوات بعد خدمة في مجال التعليم وصلت إلى نحو ثلاثة وثلاثين عاماً، دافع فيها عن لقبه المثير للسخرية بمنتهى العنف، ولم يتنشق حتى يوم خروجه نسائم مرحلة "كادر المعلمين الخاص" الذي تباهي به الدولة وتشخلل بجلاجله كحل سحري وأخير لأزمة التعليم المصري، لن يلحق الجحش بركاب الثلاثة مليارات جنيه التي خصصتها الدولة لترميم التآكل العنيف لأوضاع المعلمين، لأنه إستقبل تلك الأنباء وهو يعدل من وضع نظارته البيرسول الستينية مرخياً وضع قدميه على أنه "كلام جرايد فاضية". الجحش الأقرب، بتدلي يديه وعموده الفقري المنحني، إلى فصيلة إستوائية من القرود بصوته الأجش الذي غالبا ما يقطع بين مفاصل كلماته شخيراً إسكندرانياً أصيلاً، هو أبعد ما يكون عن ذلك النمط الكاريكاتيري الشائع للمدرسين كما قدمتهم السينما. بدأ مسيرته كمدرس للجغرافيا، وعندما خلت المدرسة من مدرسي اللغة الإنجليزية منذ 20 عاماً درس الإنجليزي الذي كان يختصر علاقته به في ضرب الولد يوسف على ضمائر الغائب في جلسة الدرس الخصوص قائلا: لو مفرد... تيجي معاها يابن الكلب،... يا دو، يا دييد... يا أيه ... يا دززز يا حمار". ظل يأتي حتى آخر أيام خدمته على الفيسبا الحمراء مرتدياً قفازين جلديين وسكارف على نمط الوجاهة الفرنسية زمن الأبيض والأسود، مبالغاً في درجة لمعان حذائه الأسود وقد تعود أن يقتحم باب"مدرسة الأقباط الثانوية ـ بنين" صباحاً بنصف دائرة "أمريكاني" تثير الموتور المتهالك وكثير من الأتربة، بنيته القزمية وضيق عينه وتطويح جسده كله مع قفزة صفعته الشهيرة حين يحل وقت "الغباوة" إليومية على أحد الطلاب جسدت لحضوره المركزي المرتكز على سلاطة لسان نادرة وثاقبة في إختيار أوصافه التي كثيراً ما أرهبت زملاءه وطلابه. التعويض السيكولوجي المتمثل في الصوت الجهوري والبذاءة اللغوية وسمعته كأباضية قديم في مربع حوض الزهور بمنطقة السبتية الشهيرة موطن تجارة الحديد في ميدان رمسيس، خلقت من حضوره حالة مسرحية ذات ملمح كوميدي أسود على خلفية يومياتي الوظيفية كمدرس ثانوي عام لمدة عامين في بداية مسيرة ما بعد التخرج، إستهل عبد الجواد فصلها الأول بمشهد إفتتاحي مثير عندما قادتني قدماي بخطاب ترشيحي للمدرسة أول يوم وأنا أوازن خطواتي أمام بابها لأدخل عالمها الكرنفالي من أوسع أبوابه، بوابة المدرسة التي كان يستقر خلفها الجحش بنصف كوب شاي أسود وخرازانته التي ألهبت كتفي عندما خطوت أول خطوة، ظانا أنني أحد الطلاب المتأخرين. كانت تلك الضربات مفتتحاً مناسباً لعلاقة طريفة تقمص فيها دور الأب الكبير وتقمصت عبرها روح المتلصص على عالمه، بإختيار بدا لأول وهلة مرهوناً بقدرتنا سوياً على إيجاد هموم مشتركة بشكل سريع، بعد فض إلتباس البداية الذي كاد أن يطرحه على ظهره من الضحك. أخذني من يدي كما يفعل مع ضحاياه من الطلاب وأدخلني حجرته الأرضية التي يتابع عن طريق موقعها الوسطي كل صغيرة وكبيرة في المدرسة. سلمتُهُ إقرار إستلام العمل بنسختيه وهو يتعجب من "بلاوي الوزارة" التي أرسلت مدرسا عمره يقارب بعض أعمار طلابه. خلع نظارته الشمسية وأرتدى نظارة القراءة وهو يخرج سلسلة مفاتيح ضخمة جعلته يبدو أقرب لسارقي الخزائن وتمدد خلف مكتبه "الإيديال" العريض والصدىء، لم يترك لي فجوة تسمح لي بالدفاع عن أي شيء، الوزارة أو نفسي أو الكلية، وأحاطني بأسئلة لم ينتظر حتى إجاباتها: "مدرس جغرافيا... هأو... يعني أنضميت للكنيسة فوق..... سلملي على أبلة مني أم طي... (مؤخرة)... يعني مارحتش إعدادي ليه... هيا المشرحة ناقصة قتلى.... روح يبني للتوجيه وأطلب نقلك... العيال اللي هنا يمرشوك بسنانهم آه...... يعني مصمم تبقي جنت على نفسها براقش.... حتشتغل ياعم مع أبلة موندة... فرسة المدرسة.... ياخي أح...(تعبير صوتي دارج للإعتراض)، نصف ساعة أولي من البث من طرف واحد كرست حضوره كمدير لشؤون العاملين وهو منصب هام في ميكانيزم العملية التعليمية للمدرسين، حيث بين يديه دفتر الحضور والإنصراف ولديه تُسلّم طلبات الإستئذان بإنصراف مبكر، أو طلبات الإجازة، وإليه تصل إخطارات التحقيق لدى الشؤون القانونية بالوزارة، وهو من يستقبل لجان التفتيش المفاجئة المرتبة سلفاً، وعلى مكتبه يقع التليفون الوحيد بالمدرسة والذي يجاوره صندوق جمع الغلة، حيث يشترط إستقبالك لأي مكالمة بدفع ربع جنيه ثمنا لصمته على "المصالح" التي ينجزها التليفون للمدرسين. بمعنى أدق هو الناظم الأوحد لعلاقة المعلمين بعالمهم الوظيفي الذي لا يخلو من جزاءات بيروقراطية وتحايلات وظيفية تتعملق جميعا حول دفتر ذي لون كاب متعفن هو دفتر الحضور والإنصراف الثمين، الذي كان يحمله تحت كتفه كمحضر المحاكم ايما تحرك نادرا بين جنبات المدرسة، يخبئه في شنطته السامسونيت إذا ما حان وقت دورات قمار الكونكان إليومية على المقهي القريب. ويغلق حجرته بقفل ثقيل وينتقل مكتبه بإكسسواره البشري من طائفة أخصائيين إجتماعيين لحلبة صراعه في المقهى الذي يعود منه سالما منتصراً بخمسة من علب المارلبورو الحمراء التي يجلد بها ضحاياه في رهانات المقهى، لا يشرب سجائر المارلبورو وإنما يدخن سجائر السوبر الشعبية الطويلة ويرسل أحد رجاله من الطلاب لبيعها عند عم يوسف صاحب الدكان القريب. وليستقر عالمه تتبع به طائفة منتقاة من الأتباع والخدم: محمد المعايرجي الأخصائي الأول ومندوب أمن الدولة السري بالمدرسة (يصطلح على تسميته لقب العصفورة من وراء ظهره)، الطالب يوسف إدوارد سمكري الفيسبا الراسب لثلاث سنوات بالقسم الأدبي وأحد البلطجية الكبار بين طلاب المدرسة والذي يفكك يويا فيسبا مدير شؤون العاملين بحوش المدرسة لتشحيمها وغسلها بالجاز بعد أن ينهي دورة الإصطباحة بميكرو باص، مدرس التربية الرياضية محمد السيد، والأخير يجري تغطيته يوميا من قبل الجحش لكي لا يحضر طابور الصباح المرتجل كي لا ينقطع رزقه على خط رمسيس إمبابة الذي يعمل عليه. يوسف يكون بذلك ركناً أصيلاً في علاقة الجحش بمحمد السيد، فحضور الأخير طابور الصباح إذا ما "زرجن" الجحش يعني تعويضه بيوسف الذي لا يثبت غيابه في كشوف غياب الحصة الأولي والثانية. وكي تكتمل دائرة المريدين هناك وائل، أخصائي معمل الكيمياء ذو الدور الضخم حيث أخته الموظفة في التفتيش تبلغ الجميع بمواعيد الزيارات التفتيشية المفاجئة من الوزارة أو الإدارة، واخيراً امين الخزانة سعيد محمود المسؤول عن المرتبات والحوافز.هذه المجموعة تشكل الركن الركين في مدرسة ثانوية من آلاف المدارس الموجودة في مصر، وليست مدرسة "الأقباط الثانوية بنين" مجرد إستعارة أدبية منتحلة على واقع التعليم المصري، فالجميع يدرك حجم الجريمة كاملة الأوصاف التي تدار تحت مصطلح التعليم المصري. ليس إنخفاض الأجور وحده ـ راتبي عند التعيين كان نحو 98 جنيها أي ما يعادل 20 دولاراً شهريا ـ وما يترتب عليه من شيوع مشكلة الدروس الخصوصية، فالأخيرة نتاج طبيعي لنمط تعليمي قائم على التلقين والحفظ على مستوى المناهج ومحتواها، وعلى مستوى التقييم التعليمي، ثم أخيرا على البنية الوظيفية في التعليم المجاني ـ الذي ما صار مجانياً ـ والذي يدفع أهل الطلاب فوارق مرتبات مدرسيه من جيوبهم على هيئة دروس خصوصية، لقد تحولت عادة الدروس الخصوصية من نظام لتعويض فقر الحياة الدراسية إليومية إلى جزء مركزي من بنية التعليم المصري، تحول بالنسبة لطلابه ومعلميه إلى إكسسوار مسرحي لذر الرماد في عين دولة تدعي أنها تشرف على تعليم ما. فدفتر حضور المدرسين والطلاب هو سقف علاقة سلطة التعليم بكافة أطرافه، الطلاب بحثا عن شهادة لا تسمن من جوع ولا تتناسب مع سوق عمل مجبرين على يوم دراسي طويل أقرب للنزهة منه للعملية التربوية، والمعلمون يتعاملون مع تراب الميري الوظيفي على أنه مناسبة لإصطياد وترتيب ساعات الدروس خارج إليوم الدراسي، حالة من الكذب التعليمي والنفاق المجتمعي الذي يتواطأ جميع أطرافه على إنجاز مشهد تعليمي فارغ من مضمونه. فالدولة تعلم أن التعليم، وهو آخر أركان الدور الإجتماعي للدولة، يظل، بفساده، الركن الأساسي في فرض الهيمنة الأيدولوجية والسياسية على جماهيرها، وهي مهمة تحاول الدولة التكيف مع حدود إلتزاماتها الدنيا. بمعنى الإنفاق على عملية تعليمية خربة لتكريس خرابها الذي يقدم من جهة جيش من العمالة الرخيصة غير مؤهلة ومن جهة أخرى يساعد مستوى فسادها على تغييب للوعي بشكل ممنهج يصلح لفرض السيطرة السياسية، فيما تفتح أبوابها للتعليم الخاص الذي يتخصص مع الوقت في تقديم الكوادر والخبرات الصالحة لسوق العمل لطبقات بعينها. هذا وإن لم يسلم التعليم الخاص نفسه من خلل المركب التعليمي الذي ميز التعليم الحكومي. فمناهجه وأسإليب تقييمه وبنيته تؤدي لنفس النتائج وإن كان بكلفة أعلى تدفعها طبقات أعلى لرجال أعمالها بعيداً عن مسؤوليّة الدولة عن ذلك. وتعلم الدولة أن ما يزيد عن مليون و مئة ألف معلم رسمي ـ غير عدد المعلمين خارج جداول النقابة ـ هي شريحة يسهم رأسمالها المتداول بعيدا عن عيونها الضريبية. ـ تشير الإحصاءات إلى رقم 8 مليار جنيه حجم الدروس الخصوصية تنفقها الأسر المصرية سنوياً ـ رأسمال أصبح حرياً بالدولة أن تضع ضوابط لإقتسامه مع المدرسين، لذا لم يكن مستغربا أن تسارع الدولة لتوفير 3.1 مليار جنيه لإصلاح الخلل في هيكل أجور المعلمين بحثا عن سيطرة قانونية على تلك الرساميل التي تدار بعيداً عن ذقنها.الدولة تعلم تماماً أن الحفر العميق في مجرى إصلاح التعليم المصري أكثر تكلفة من ذلك، اذ هو يتعلق بمناهج متخلفة لابد من تطويرها، وبنية أساسية متدهورة تحتاج لمليارات لوقف إنهيارها، فيما هي تنسحب أساسا من دور دولة الرفاة الإجتماعية لصالح دولة السوق، ومن ثم لا يتبقى لها غير المزايدة بتلك الخطوة الطفيفة في تعديل الأجور كمبرر لهجوم متوقع على سوق الدروس الخصوصية. فالكادر الجديد سيجعل متوسط أجور المدرسي يدور بين 500 إلى 1000 جنيه، اولئك الذي يدور متوسط دخلهم في سوق الدروس المفتوح بما بين 1500 إلى ثلاثة آلاف جنيه، وهو ما يعني ضمنياً عدم ردم الهوة المفترضة. فمحمد الجحش الذي أدمن إعطاء دروسه الخصوصية في حجرته بالمدرسة، وفي أثناء إليوم الدراسي مثله في ذلك مثل الآلاف كان قد توقف قليلا عام 1998 أمام عنوان رفع أجور المدرسين الذي تكرر مئات المرات معلقاً: "مفيش فايدة عمك سعد زغلول قالها يجي من قرن .... يبقوا يتفوا على قبري لو الدنيا إتصلحت" ثم يلتفت إلى أحد أتباعه قائلاً "بالمناسبة قزازة البراندي اللي جبتها خلصت على التلات تيام اللي إتشلولك من الغياب.... شخلل جيوبك ياحلو..هأو"..

السلّم الخماسي النازل للوضوء من ماء النيل


لم تعرف الدولة المصرية المركزية منذ 7000 عام مجموعة عرقية متماسكة وعصية على التطويع كما أهل النوبة. وبما أن الفرعون المصري غالباً ما تعامل مع الجنوب بمنطق برغماتي صرف، من حيث كونه موطناً لوفرة الموارد الطبيعية والبشرية، فقد مثل ذلك الأقليم البعيد الذي سكنه هؤلاء "البرابرة" مجالاً لتفريغ موجات غضبه الدورية كلما جاءت لحظة تجديد العهود والمواثيق ببعض من الدماء الطازجة. فنطاق أراضي الذهب ـ المعنى الحرفي لكلمة نوبة ـ ظل نطاقا إثنياً إنتقالياً بين أهل مصر بتنويعات شمال الوادي بين صعيد ودلتا وبين أصحاب البشرة السمراء السودانية. النوبة ظلت أشبه بسلالة محتجزة بين مجموعتين تتعاليان عليها، شمالاً وجنوباً: مصريون، وهم خليط متجانس من أهل الأراضي المنخفضة وكافة المجموعات الإثنية التي قذفتها إما الصحراء شرقاً وغرباً وإما البحر شمالاً؛ وسودانيون (جنوباً) أكثر إندماجاً مع السلالات الأفريقية. وحتى مع طول تاريخ الهجرات العربية قبل الفتح الإسلامي وبعده لمصر ظل النوبيون مجموعة مغلقة سوّرتها المجموعات العربية الوافدة شمالاً وجنوباً، فاستقرت القبائل العربية الى شمالهم والتفت جنوباً حولهم في شمال السودان دون أن يهتز ذلك السجن الإثني إلا قليلاً ـ تزاوج بين العرب والنوبيين حدث في منطقة شمال اسوان، وقد أنجب فئة محتقرة من الطرفين يسمون عرب العليقات. وإستعصت النوبة حتى على دخول الإسلام فظل أهلها مسيحيين لقرون ثلاثة بعد دخول عمرو بن العاص، بل وبقي إسلامهم، حتى هذه اللحظة، يجمع في طقوسه بين الروح الفرعونية والقبطية. لم يعرف عن النوبيين تجرؤهم على سادة الشمال إلا قليلاً، وهم اعتصموا داخل حدود قراهم ومراكزهم البعيدة بقانون عرفي يحظر التزاوج خارج العائلة الواحدة أو العشيرة، وتعاملوا خلف عالمهم المغلق ـ في البداية مكرهين وفي النهاية أنجب التجاهل تعالياً وتسامياً ـ بمنطق أنهم أهل الأرض الأصليون والآخرون ضيوف سيرحلون عاجلاً أو آجلاً.وتمر القرون ويزداد تمركز السلطة شمالا ويزداد تعاليها كلما اتجهت جنوباً. ويعرف النوبيون بمرور الوقت مظاهر من التمرد على السلطة المركزية كانت غالباً ما تنتهي تحت حراب فرقة الوالي المرسلة لقمع التمرد. حتى سلطة محمد على الوالي الجديد قاوموها فنفى بعض قبائلهم إلى البلقان، وتحديداً إلى المجر (عرفوا لاحقا بالمجراب). وجاءت خطط بناء الدولة الحديثة المعتمدة على التحكم في مجري النهر وتنظيم مياهه لتقدمهم كبشا لفداء الدولة الأم، فشهدوا تغريبتين منذ مطلع هذا القرن: الأولى تغريبة بناء سد أسوان وتعلياته منذ بداية القرن العشرين وحتى أربعينياته، والثانية مع بناء السد العالي في الستينيات وهو ما أنتج أكبر عملية تهجير إثني لهم من أراضيهم التي تقع الآن تحت مياه بحيرة ناصر خلف السد العالي إلى الشمال من أسوان. وقد خلّفت التغريبتان جرحاً عميقاً في الخيال الجمعي للنوبيين، حيث إنفرط وللأبد عقد الأثنية الأكثر تماسكا في التاريخ المصري. وظلت الثقافة الخاصة لتلك المجموعة مقصورة على نوعين من النشاط البشري: اللغة النوبية الشفاهية والتي لم تعرف التدوين إلا قليلاً ويتناقلها ابناء الأجيال الحالية كتعويذة سحرية مندثرة يحاولون بها التأكيد على تفردهم الثقافي، أما ثاني اشكال الهوية فهو الموسيقي التي كتب عليها أن تلعب دورا مع اللغة في حفظ تاريخ المأساة النوبية.تحوّل السلّم الموسيقي الخماسي الشهير في السودان، بمزجه ما تبقى من موسيقي فرعونية قديمة بما يمكن تسميته بالموسيقى النوبية، التي كتب لها أن تبقى حبيسة الذاكرة الجمعية لأهالي النوبة حتى ظهر مبدعها الأهم أحمد منيب في ستينيات القرن الماضي.ولد أحمد منيب في 4 يناير/ كانون الثاني عام 1926، أي بعد بناء سد اسوان بسنوات قليلة، وقد عاش مخلصاً لذلك الشجن الصافي لتلك الجماعة. فكان أول من عزف على العود في النوبة وقدم مع الشاعر محيى الدين شريف أول اغنية نوبية تتكون من قالب الأغنية الحديثة ـ مذهب وكوبليهات ـ حيث فيما قبل هذا التعاون كانت الخميرة الموسيقيية النوبية هي إبنة الممارسات الاجتماعية وجزءاً من طقوسها الشفاهية، أغان تتوارثها الأجيال بتنويعات لحنية ثابتة في الأفراح وحفلات الميلاد وأغنيات العمل. كانت عين الشاب أحمد منيب في هذا التحول متجهة نحو الشمال، بحثا عن توليفة تمزج تلك الموسيقى البعيدة بالموسيقى الشرقية المسيطرة شمالاً. وليس أكثر من العود آلة قابلة لهذا التوليف. عرفت النوبة الطنبور، وهو آلة وترية قديمة ذات جذور فرعونبة، أما العود وهو أساس القالب الشرقي، فكان مهمة العازف الشاب الذي إبتدع من خلاله وصلة عشقت الخماسي الإيقاعي الأفريقي بالشرقي الطربي، وكان المفتتح لذلك هو الشجن الذي حوّل الخماسي الراقص في نسخته الإفريقية إلى موسيقى حزينة ذات إيقاعات أقرب إلى روح العديد القدبم. وإنضم الملحن الشاب لفرقة زكريا الحجاوي حيث استمرت جولته معها عامين جابا فيها كافة أنحاء مصر. فاجتمعت له ناصية الثقافة الموسيقية الشرقية وتلوناتها الشعبية إلى ما يكتنزه أصلاً من موسيقي النوبة. لذا وجد الفتى مشروعه مع إهتمام ثورة يوليو بتوطين العلاقة مع السودان وجنوب مصر، فأنشأت الإذاعة المصرية إذاعة وادي النيل لربط خطابها الأيدبولوجي بامتداد مصر الجنوبي ممثلا في السودان. لكن أحمد منيب وزميله الشاعر وجها رسالة شخصية للرئيس ناصر طالبا فيها بالسماح للموسيقى النوبية بمساحة في الإذاعة المصرية كتأكيد على مصرية نوبيته. وجاء برنامج "من وحي الجنوب" ليسمع المصريين اللغة النوبية بلسان عبد الفتاح والي وألحان العازف الشاب أحمد منيب.انتصر منيب إذن في معركة إنطاق الإذاعة لغة النوبة لكن حصار الذوق السمعي عبر غناء الأساطير (عبد الوهاب وأم كلثوم وبعدهما عبد الحليم) أجلا مشروعه الكبير، الذي ظل حبيس حفلات الأفراح النوبية في القاهرة والاسكندرية. لقد نجح نجاحاً إكسسوارياً كعادة الفترة الناصرية في الإعتراف بأطراف الصورة دون أن يتاح لها الوصول إلى المركز. وسينتظر أحمد منيب لحظة السبعينيات اثر الغياب المفاجئ لكل أساطير المرحلة ليقدم مشروعه. غيب الموت عبد الحليم وأم كلثوم وتراجع عبد الوهاب للتلحين منذ منتصف السبعينيات، ليظهر أحمد عدوية بموسيقى الحارة الشعبية المصرية خارج الأطر الرسمية. ثورة كاملة على الأقانيم الموسيقية المستقرة منذ نصف قرن، تتوافق مع مزاج عام لطبقة وسطى خرجت بمزاجها السمعي من مشهد إنتظار حفلة "الست" أوائل كل شهر ومع الأعياد الكبرى الوطنية، إلى انفتاح إقتصادي ومزاج مجتمعي كرسته ثورة الكاسيت التي أعطت الحق للجماهير في إختيار سلعها بعيداً عن التعلق بالإذاعة. التقى أحمد منيب مع الشاعر عبد الرحيم منصور ذي التجارب الناجحة مع عفاف راضي إبنة السبعينيات المدهشة، ليشتمل اللحن الحزين بالكلمة الثرية المهمومة القادمة من عمق الصعيد المجهّل عن عمد، فيما عدا مؤسسية عبد الرحمن الأبنودي الإكسسوارية التي شاغبت احلام مطرب الثورة (عبد الحليم) وزعيمها (جمال عبد الناصر).كان للحن والكلمة أن يختارا صوتهما الخاص، فكان محمد منير عام 1978 منجز هذه الترويكا المغامرة والغامضة، وأخضع هاني شنودة ويحيي خليل الموزعين تلك الثورة الإثنية الموسيقية والغنائية للمسات غنية بالتوزيع الحديث. هاني شنودة صاحب تجربة غناء فرقة المصريين وثورة الأورغ الكهربائي، ويحيي خليل ملك جاز السبعينيات الإيقاعي ذو الثقافة العالمية، لتبدأ مسيرة النجم محمد منير ومن حوله جيل الثمانينيات. 85 لحنا غنى منها أحمد منيب 51 لحناً ضمّنها ألبوماته السبعة (مشتاقين، يا عشرة، كان وكان، بلاد الدهب، راح أغني، قسمة ونصيب، حدوتة مصرية) و37 أغنية لمحمد منير وحده في أول عشر ألبومات، وهناك أغانٍ لحميد الشاعري وعلاء عبد الخالق وعمرو دياب وإيهاب توفيق ومحمد فؤاد و فارس وحسن عبد المجيد وحنان. من كاتبي كلمات نجوم تلك المرحلة، فؤاد حداد، صلاح جاهين، عبد الرحيم منصور، مجدي نجيب، عصام عبدالله،أحمد فؤاد نجم، سيد حجاب، جمال بخيت وغيرهم. لكن تجربته مع محمد منير تبقى الأكثر جذرية لأنه لا يمكن احتساب تجربة منير دون أبيه الروحي، الذي قدم معه اجمل أغنيات تلك الفترة مثل: أم الضفاير، اتكلمي، افتح قلبك، الرزق على الله، الليلة يا سمرا، شجر الليمون، بعتب عليكي، حدوتة مصرية، حواديت، نجيب سؤال، سحر المغنى، سهيرة ليالي، سيلي، شبابيك، ع المدينة، عروسة النيل، عقد الفل والياسمين، في دايرة الرحلة، في عنيكى غربة، قمر صيفي، قل للغريب، نانا، هون يا ليل، يا اسكندرية، يا أماه، منصور يا صبية، يا غربتي، يا مراكبي. إستطاع ثلاثي تلك التجربة (منيب، عبد الرحيم، منير) أن يُدخل، ولأول مرة، الثقافة النوبية إلى كل بيت وأسرة مصرية حيث انتزع اعترافاً متأخراً بثقافة عانت قروناً من التغييب والتعالي الرسمي. وكان ألبوم منير الشتوي، عاماً بعد عام، ومنذ بداية الثمانينينات هو موعد أبناء جيل واحد للتغني بأحزان وغربة المدينة، جيل لم يعش يوما في النوبة وإن توحد، وهو غير النوبي مع اغتراب أهلها في القاهرة. جيل ربما لم يعرف الغربة لكنه بألحان أحمد منيب إحتشد في غرفه المصمتة عازلا أنفاسه عن ترنح الآباء في صالات المنزل أمام سلطة أم كلثوم وزمنها الذهبي. جيل حملته ألحان منيب إلى نوستالجيا لم يرها وأكتفي بتمثلاتها في صوت، كما الكرباج، يجلد جلاديه ويحاسب، على العود، والدفوف أبناء سادة الشمال الذين أسكتوه لقرون طويلة. منذ ستة عشر عاماً مات أحمد منيب وفي ذكراه السنوية يحضر لحنا مع حميد الشاعري في ألبومه الأخير ويسجل محمد منير في ألبومه القادم أحد كنوزه التي لم تكشف بعد، فسلاماً على الخال منيب الذي احتوانا فلم ننسه.

ثلاثة شعراء وعامل مطبعة وضابط شرطة


يستعيد المشهد الثقافي المصري الفضائحي رونقه كالعادة، فمع كل محاولة لتكحيل العين العمشاء يبرز عماء جدير بكل المتهافتين على معادلة مفادها أن الخروج من ظل شجرة الدولة الوارفة الظلال والثمار يعني تيه العشيرة في أرباع جموع السفهاء والصعاليك. ومن ثم فنحن نهجو الدولة في المقاهي في حين لا نترفع عن تولي مناصبنا فيها. فالدولة ليست وزير الثقافة أو مؤسسته ونضالنا من داخلها نضال لقيمة سامية مترفعة إسمها الثقافة الوطنية ـ والأخيرة مصطلح سنّه منظر دولة الشجر الثقافي الوافرة د.جابر عصفور ولا يزال يروج له حتى الآن.بمعنى أن مواجهتنا لإنقلاب الراعي (الدولة) والرعية (الجماهير) على مشروع التنوير تبدأمن الخطوط الأمامية من مؤسسات القهر الثقافية نفسها، والتي، وإن فشل مشروعنا في أن نعقلنها ونمدنها، نجد أننا قدّمنا دورنا أمام التاريخ، حتى لو باتت السلطة في غير احتياج لنا كظهير ثقافي وإكسسوار حداثي لبنيتها المشوّهة. لذا ليس غريباً أن تظل "الهيئة العامة للكتاب" القاطنة هناك على كورنيش النيل قابلة للحج والطواف الثقافي مهما كان تجهم لوائها الأنصاري في فوتوغرافيا النشرات الصحافية مقنعاً لجمع أسرة الثقافة تحت حزام السياسة، ومهما تقمص ضابط الشرطة السابق سمت المدافعين عن شرف المجتمع وعورته التي تبدأ من أسفل الذقن لتشمل العقل والقلب ومتعلقاته. فقد صحت القاهرة على معركة خفيفة وهشة من معارك المثقفين وهي أشبه بمن يشاهد مشهداً هزلياً إلى حدود البكاء. والحكاية تبدأ من شاعر فحل خرج على حدود المؤسسة ناعياً استقلاله المزعوم بعد فضيحة مؤتمر القاهرة الشعري الأخير، حينما أسس الفاشيون الجدد بقيادة أحمد عبد المعطي حجازي لمازورة شعرية أخرجت كل من هو خارج ذائقته من حدود المؤسسة الراعية للمؤتمر. خرج الشاعر حلمي سالم رافعاً لواء الثورة المتأخرة على لجنة الشعر بتنظيم فاعلية موازية أسماها "ملتقى الشعر البديل"، نظمها الرجل ونفر من زملائه المخلصين لتجمع كل ضحايا مقصلة حجازي التي لا ترحم. ومر الملتقي فيما الشاعر نفسه يشارك من بعيد لبعيد _ والله أعلم بالنوايا ­ في إصدار مجلة "إبداع" في إصدارها الثالث المغدور ـ وللمفارقة تصدر تحت رئاسة تحرير حجازي نفسه ـ بقصيدة عنوانها "شرفة ليلي مراد" كانت قد صدرت في ديوان "في ثناء الضعف" الصادر له حديثاً عن دار المحروسة للنشر. ولأن الشاعر يدرك سقوف الحرية المنخفضة للنشر في إصدارات الدولة قام طوعياً بتغيير لفظة الله المكررة عبر ثنايا القصيدة إلى لفظة رب، متخيلاً أنه سينجو بذلك من رقابة عمال المطابع الشهيرة. لكن المتربصين فاجأوه حينما قلصوا مقياسهم الرقابي ليطارد لفظة رب هي الأخرى.أمر الجنرال د. ناصر الأنصاري (وتعبير الجنرال ليس مبالغة لفظية فالرجل بدأ حياته الوظيفية ضابطاً بالشرطة ولم ينتهِ من تقمص روح زيّها الرسمي حتى لو خلت صوره من النسور على الأكتاف) بمصادرة العدد بعد بيع نسخ كثيرة منه بحجة ورود "تقارير" تؤكد أن القصيدة تحتوي على تطاول على الذات الإلهية، ليتصاعد الجدل الممل كالعادة عن مسؤولية الدولة ثقافياً في حفظ الأخلاق العامة، ولينبري كثيرون للتباكي على قصيدة الشاعر المغدور. لكن العدد الماضي لجريدة "أخبار الأدب" حفل بأكثر من مفاجأة خرجت بالمشهد من حدود رتابته المتوقعة، حين ارتبكت أرجاء الصورة بعدم تناغم مفزع وضعته ثلاث شهادات لثلاثة أطراف هي موضع مشهد تهافت التهافت بامتياز. المشهد الأول في صدر الصفحة الثالثة للجريدة حيث ينفي د. ناصر الأنصاري تهمة "البلاغ" في قصيدة حلمي سالم، حيث تورط الأنصاري في حديث تلفزيوني سابق فأكد أن من أبلغه بتجاوز قصيدة حلمي سالم لخط الممنوعات. وعندما حاصرته الصحافية بسؤال مفاده: هل صحيح أن شاعراً هو الذي أبلغك بمحتوي القصيدة وليس عمال المطابع، كان رده: لو كان لعمال المطبعة علاقة بالموضوع لما طبع العدد من الأساس.إلى هنا ينتهي الاقتباس الأول الذي يؤكد أن السلطة المعطاة لعمال المطابع معترف بها على لسان الجنرال الأكبر. لكن الصحافية عادت لتصر على سؤالها: إذن هل ان من قام بالإبلاغ عن القصيدة هو أحد الشعراء؟ فرد الأنصاري: "ماقدرش أقول ده... أنا لدي لجان الفحص الخاصة بي في الهيئة... هذه اللجان تنبهت للقصيدة لكن متأخرة بعد صدور العدد". هنا لا بد من التوقف مرة أخرى حيث لا داعي للتأكيد على أن للأنصاري ما لا يقل عن مئة تصريح سابق، بدأت منذ توليه منصبه، ينفي فيه وجود أي لجان رقابية في هيئته المصونة. ثم تعود الصحافية لتؤكد في باقي التقرير أنها علمت، عبر مصادر في الهيئة، أن لجنة بحث الأزمة التي شكلها الانصاري تتكون من نائبه وحيد عبد المجيد وعضو من اللجنة الثقافية بالهيئة وعضو من هيئة تحرير المجلة، وأخيراً عضو من المطبعة حيث من المتوقع صدور المجلة بتدارك الخطأ أي بحذف قصيدة حلمي سالم.حاول الأنصاري في إجاباته تهويم تهمة المصادرة لتبقى معلقة في فراغ المبني للمجهول. لم ينفها عن الشاعر ولا عن عمال المطابع وأعاد الخطأ لمساحة لجانه الرقابية التي لم تؤد عملها بإتقان من البداية وكفى الله المؤمنين شر القتال أو النميمة. مجرد خطأ بجرة قلم لن يوقف مسيرة قافلته.أما العواء تحديداً فقد جاء في مؤخرة نفس العدد من أخبار الأدب عبر شهادتين: الأولى مقال تبريري فج للشاعر حسن طلب مدير تحرير "إبداع"، (تأمل الحكمة الوظيفية ونموذج مثقف النصف نصف الرائع) والثاني شهادة بكاء وعويل من العيار الاستشهادي الثقيل بقلم حلمي سالم نفسه ولنتأمل أركان الشهادتين:يكيف الشاعر الكبير حسن طلب ـ ولا نقصد هنا "يقيف" نسبة لصنعة الترزي البلدي ـ موقفه بضبط المسافات الدقيقة من أبعاد الأزمة محاولاً تجنب المسؤولية الضمنية له في الفضيحة كمدير تحرير تمت الوشاية ضمنياً به وبذائقته الأدبية، حين يحاول أن يعطي للدكتور الأنصاري الحق المشروع في مصادرة العدد ولكن باستخدام أسلوب الناصح الأمين والمهذب حين يدبج مقدمة عصماء حول طبيعة اللغة الرمزية في الفن والشعر _ تأمل أدب المرؤوسين ـ فيعدد له سوابق اللغة والشعر التي كانت في السابق تستوعب مقطع "المجد للشيطان معبود الرياح" في قصيدة أمل دنقل الشهيرة. ويصل به رثاء الذات إلى مستوى القول الآتي: غير أن هذا لا يعني أننا ننحي باللائمة على الدكتور "ناصر" فنحن هذه المرة ينبغي ألا نلوم إلا أنفسنا ( تأمل التواضع) نحن المثقفين مذ سمحنا لضعاف المواهب والنفوس أن يندسوا بيننا مع رصفائهم من الموظفين الذين لا يعملون ويسوؤهم أن يعمل الآخرون ( أي نحن طبعاً)... لكم ساءهم بالفعل أن تظهر مجلة مصرية بهذا المستوى الرفيع، فلم يكتفوا بإبلاغ رئيس الهيئة فحسب عن المقطع ( المذكور)، وإلا لهان الأمر، ولكن تطوّعوا بإرسال البلاغات الكيدية إلى أمثالهم من صغار الصحافيين، لكي يشعلوا الفتنة ويهيجوا الرأي العام على الهيئة التي يعملون بها ( أليس عيباً الحديث هكذا على زملاء العمل؟). وحسناً فعل الدكتور الأنصاري حين أشار في حديثه التلفزيوني مساء الأحد الماضي ـ (وهو ما أنكره الأنصاري في نفس العدد) ـ إلى هذا الشاعر/ المخبر الذي أبلغه، حتى ينفضح أمره بين زملائه ( طبعاً لا يملك جرأة التصريح بإسمه) بعد أن ارتدى قناع الحداثي المتمرد على المؤسسة وهو يشاركهم ملتقى الشعر البديل بينما يقبض باليد الأخرى منحة التفرغ من المؤسسة نفسها ويجهز الآن قناع الطليعي الثائر من خلال المجلة التي يعد لها مع زملائه!إلى هنا ينتهي البلاغ المزدوج للشاعر الكبير عن الفضيحة فهو يبرئ السلطان (الجنرال) من استماعه للوشاية ملقياً بالتهمة على شاعر مبني للمجهول ولا ينقص إلا ذكر إسمه. ولكي يكمل طلب ضربته المزدوجة عليه أن يكمل مشهد التضحية بذبح حلمي سالم على مذبح ضعف الشعرية، حيث يؤكد على ركاكة وهشاشة النص اللتين شجعتا ضعاف النفوس على التربص بالمجلة واصلاً إلى نتيجة مفادها أنه قد أخطأ من الأساس بقبول قصيدة ضعيفة لا يمكن الدفاع عنها!! ويعود ويصر على أن المجلة بنخبوية الجمهور المستهدف كانت ستمر لولا تربص المتربصين بها. هكذا برّأ طلب نفسه ورئيسه من ألاعيب مجموعة من الشعراء النابحين ذوي النفسيات السوداء ضد إنجاز مجلته الضخم، محيلاً أجواء الأزمة لزوبعة تافهة في فنجان مجموعة من الشعراء السفهاء الذين لا يقدرون نضاله الوظيفي لتمرير الثقافة من خرم إبرة المجتمع الضيق، وهو في ذلك الدفاع الإنبطاحي هو الآخر معذور. لكن من لا عذر له فعلاً هو حلمي سالم الذي كتب شهادة جاءت في الصفحة المقابلة دون تنسيق للمواقف مع من سبقوه في نفس العدد حيث باعوه جميعاً في المزاد العلني، فيما هو أصرّ على تبرئة الجميع من دم قصيدته المهدورة محملاً ذنبها كالعادة على مشجب عمال المطابع، الأبرياء هذه المرة .إذا كان منطق حسن طلب هو تهافت الشاعر الموظف، فإن موقف حلمي سالم هو تهافت التهافت المتأخر. فقد حسبها حلمي سالم حساباً تقليدياً حين حمل المبني للمجهول وتقديره عمال المطابع الأسطوريون شرف التحكم في الثقافة المصرية. عنون مقالته بـ"ثقافة يحكمها عمال المطابع"، حيث لم ينس في البداية توجيه الشكر لكل من باعوه، وفي مقدمتهم حجازي وطلب، مشيداً بموقفهم في الدفاع عن قيم الإستنارة والحرية وتحدث عن نفسه ككبش فداء ضخم ذبحه عمال المطابع للنيل من حجازي وهيئة تحرير المجلة. ثم ولإكمال المشهد بكامل إكسسواره الاستشهادي وضع نفسه في مسيرة شهداء التعبير بدءاً من الحطيئة وإنتهاء بمارسيل خليفة مروراً بكامل تاريخ القهر العربي للإبداع. ويصل في قمة منحنى خطاب التضحية ليؤكد ضرورة فصل الدين عن الإبداع والسياسة.على شاكلة مناضلي الشجرة الوارفة الثمار قدم حلمي سالم شهادته المتأخرة التي لو قدر له أن يقرأ ما سبقها لتراجع عنها، لكنه لا بد سيقرأ عدد أخبار الأدب كما قرأناه ونتمنى في المرة القادمة أن يكون إخراج المشهد دون هذه الراكورات الزمنية والمواقفية، على الأقل فليبحثوا عن مخرج يعيد ترتيب مشاهد الفضيحة بدلاً من هذا الإرتجال الذي يبدو شعاره "تعظيم سلام" لكل من هو فوق في الهرم الثقافي المصري المقلوب، حيث لا مجال لبطولة زائفة، أو أحاديث مكرورة عن ثقافة مغدورة.

هاني الجويلي وشفرة الأقدار المؤجلة


في خريطة التفاصيل الشخصية ولع حميم ببعض الإكتشافات التي لا نجرؤ، مهما كانت ذاكرتنا مجحفة، على إنكار فضل إكتشافها الأول لناس بعينهم. أناس أدخلونا ذلك الحرم القدسي لمحبة الأشياء الصغيرة التي هي بتراكمها، اللبنة إلى جوار الأخرى تصنع شخصاً نسميه (س) أو (ع)، شخصا نسميه صاحب الخلطة السرية المكونة مثلاً من تفضيل ساراماغو على ماركيز مع محبة لا موضوعية إلى محمد رشدي وأحمد عدوية في الغناء، وعشق فريد لأعمال بليغ حمدي، وتشجيع عصابي لفريق الأهلي، وتفضيل القطارات بفوبيا كاملة كوسيلة للإنتقالات، وميل فطري إلى الأزرق في الملابس، وألف تفصيل دقيق هي الشفرة الشخصية جدا لهذا الشخص تميزه عن باقي الخلطات البشرية الموازية. ووراء كل تفصيل من هذا "الكود" الضخم نستطيع أن ندشن رواية كاملة عن هذا الـ (س) أو (ع). لكن خلف كل شفيرة دقيقة يقف كرستوفر كولومبوس وحيد في أعماق الذاكرة. هو أول من ألقى بمحبة هذا في مسيرة إلتقاطتك لسيرتك الخاصة، ربما ألقاها عرضا أمامك دون نية مبيتة بكمين عشق إجباري، وربما مارس غواية سرية للتلويح بهذا الكشف من بعيد، ثم تركك لتيه محبة وهوس تلك الشفرة لتخلق بها ومعها عالمكما الخاص. وفي قائمة الشرف الكولومبوسي البدائية يقع خليط مشوش مثلاً من الأب والخال وإبن العم الذين أورثوك من الأعماق أكثر الشفيرات صعوبة على التفسير: كرهك مثلا للبامية ومحشي الكرنب بلا سابق تجربة سيئة. ثم تستمر القائمة صعوداً ووضوحاً في أسماء المكتشفين ولحظات الكشف بطريقة أكثر موضوعية. أنت من ناحية أخرى جزء من عالم واسع من الخرائط، تتقاطع لتكون كريستوفر للبعض وتدين للبعض بشعلة بداية الطريق. أياً كانت مواقع هؤلاء الناس الآن من خرائط علاقاتك الواقعية الآنية، وما أجمل تلك التقاطعات حين تواجه كولومبوس أصيلاً فتتبادلا قوائم الإكتشافات بتسليم صيادي الطرائد الأوائل. عندها يندفع أدرينالين الصداقة بتواطؤ أبناء الطوائف السرية حين يجمعهم اللقاء في حفل عام. يبتسمون إبتسامة التمهل فلقاؤهم الحقيقي مؤجل إلى موعد سري قادم جدير بأصول التعارف اللائقة، والتي يغدو تحديد موعدها تحصيل حاصل لا محالة، ليتبادلوا في صفقات دون شروط مقدمة مخزون إكتشافاتهم عن طيب خاطر.تمر الأعوام على كراسي المقاهي والبارات والمنتديات ويغافلك أحيانا ذلك الشح المتبادل فيمن يتبادلون صفقات إكتشافهم بتقطير من يراهنون على حياة بطولها لإدامة متعة التبادل. يوثقون العهود مثلا بإكتشافين أو ثلاثة لا أكثر، ويتبادلون أحياناً النظرات المتفاهمة على إكتشاف عرضي وسط جموع من البشر في دار لعرض السينما مثلاً، أو في حكاية مارة تلوكها الألسن عبر أكواب الشاي على مقهى شامبليون، ليجعلوا من فروق التوقيت وإنشغال المواعيد وتقاطعات الهجر المؤقتة مبررا لميعاد مؤجل ومفتوح حادث لا محالة في يوم قريب لتبادل كل المكتشفات، تاركين للأقدار وحدها ظرف التحكم في طول البعاد، حتي يفاجئك الخبر. قبله بأيام كنا قد تبادلنا حديثا بالصدفة على الحرية، قال لي "مش ناوي بقى تيجي المعرض؟" فرددت دون مواربة "لأ... تعالى نتقابل ونتكلم"، كنا نتبادل هجراً لا معني له منذ عامين، ونتمهل كعادتنا العتاب المردود ونتواطأ عليه بإبتسامة من يدركون أن الميعاد قادم دون شك. هاتفته بعد لقاء الحرية العابر "أنت فين؟" ـ وكأن من حقي بعد كل هذه القطيعة أن أحدثه كزوجة حرون ـ فرد مستسلماً: أنا في الأسكندرية ...مشوار رايح جاي... وراجع بكرة"، فقلت له : "ماتيجي نتقابل"، رد: "تعالي بكرة الساعة 6 على الحرية "، "طب متنساش ال سي دي بتاع المعرض الجديد" هكذا أنهيت المكالمة الكودية القصيرة، متوعدا أياه بجلسة من العتاب والحواديت أخيراً. في اليوم التالي، وللتأكيد على الموعد، إتصلت به في تمام الواحدة. جائني صوت غريب من على الطرف الآخر، صوت مختنق "مين معايا"، قلت له: "أنا هاني درويش ـ بإستغراب ـ هوا مش دا تليفون هاني جويلي؟" صمت ثم كانت المفاجأة: "أيوا هاني جويلي تعيش أنت ... مات"، في السادسة وفي موعدنا المحدد كنت أدفن صياد الطرائد الفوتوغرافية وصديقي العزيز بمقابر العائلة بمدينة 6 أكتوبر.للموت في بلادي ألف إحتمال غير الموت الطبيعي، قد تختارك بالوعة صرف صحي مفتوحة شهيدا مجانيا، أو تصعقك الكهرباء من سلك عار ممدد في ميدان عام، أو تسقط عليك بلكونة في شارع بوسط البلد، أو يدفعك التزاحم جثة تحت عجلات مترو الأنفاق، كل هذا فيما دون الحوادث الكثيرة غير الموثقة بإحصاءات والتي تحصد يومياً جمهوراً لا بأس به من المصريين. وربما تكون محظوظا بشكل ما لتدخل في إحصاء رسمي فتموت مثلاً في قائمة الحرائق الموسمية، أو في عاصفة رملية أو تغدوا رقماً بين مئات المرضى الذين يموتون في ممرات مستشفيات التأمين الصحي بفيروس سي أو الفشل الكلوي. أما لوكنت تسكن في منطقة شعبية مسرطنة الماء والهواء والطعام، فالسرطان السريع ـ لا يتجاوز ظهوره وحملك في النعش مدة الثلاثة أشهر ـ لاإحصاءات كافية عنه. أما هاني فقد دخل بموته رقما في تشريفة الإحصاءات الحديثة عن حوادث الطرق، حيث يموت سنويا من 7 ـ 8 آلاف مصري ما يفوق عدد شهداء مصر في نكسة 1967، بمعني أنه دخل في روليت موت مجاني مصري أصيل يستهدف 1 من كل 10000 مصري. نسبة موت مشرفة للغاية بعيدا عن مجاهيل الإحصاءات. إختار ظلام الطريق الصحراوي بين مصر والأسكندرية والفاصل المعدني القضيبي بين المسارين في الكيلو 45 سيارته ليضمه بضربة عبثية رقما في إحصائه، ولم تقدم تقارير معاينة الشرطة لموقع الحادث إلا روايات متضاربة عن سبب الحادث ومن ثم الموت. هل واجهته عربة من مخالف؟ أم صدمته عربة من الخلف؟ أم إنحرف طوعاً عن الطريق لتأتي النهاية؟ مات هاني على قارعة الطريق وأصيب في بالعربة إصابات منوعة من الغيبوبة إلى الكسور والشروخ. وفي كيس أسود جمعت الشرطة الكاميرا والعدسات واللوحات والفيلترات وبعض المتعلقات الشخصية وسألوا من تسلمها بلهجة شامتة ومتشككة عن أسباب وجود اجانب في سيارة أهم مصور في مصر. ربما إشتم ضباع المخبرين في لحيته البيضاء و شعره البوني تيل و زوجته الشاعرة جيهان عمر وأثنين من المصورين الأجانب (أندريا وبابلو مصوران من بيرو) إحتمال غنيمة إذا ما أتسعت القضية للإشتباه. ربما هو الداء اللاإنساني الطبيعي الذي بات يمثل أداء مثل هذه الطائفة من البشر دون أن يعرفوا أن وجوه زملائهم المكدودين من أفراد الأمن المركزي كان هاني قد أفرد لهم لقطات بديعة في معرضه الأخير "خيط أحمر رفيع"، دون أن يتخيلوا للحظة أن تلك العين التي أغلقت عن محجريها قد إختزنت لسنوات من خلف كاميرا أشجان وأحزان أهلهم من الفقراء المطحونين، هل كانت أيديهم تدرك، وهي ترفع سماعة التليفون لتبلغ إشارة تسجيل الحادث أن عبثهم في بطاقة هؤلاء الضحايا كانت تحتاج لمن يلتقط لها كادرا، الوحيد اللائق لمثل هذه المهمة قد تحول على شفاههم المتثائبة إلى مجرد إسم ماضي. هل يعلمون أنك يا هاني إخترت الأبيض والأسود تحديدا لكل أعمالك لتكرس جنائزية هذه الحياة. وكم من مرة واجهك الموت أو إستنطقته من زوايا الظل في لوحاتك. في الهند حيث سيدتان وقفتا في صلاة جنائزية إخترتهما لي لتؤرقاني في الغدو والإياب كلما مررت أمام مكتبي، في لقطة حفار القبور الذي ماخفت لحظة من أن تلتقط مشعله وهو يرتحل بك لأعماق مقبرة في الليل، في خشوع مصلين بزاوية وهم يصلون الجنازة على ميت غريب.يامن لم تأتِ في ميعادك المؤجل منذ عامين، هل تسمح لي بكشف بعض من صفقاتنا غير المكتملة. ألم أبادلك محبة نصرت فتح على خان مقابل موسيقى البونا فيستا، ألم تقارعني ببيتر جابرييل فقدمت لك ضافر يوسف وشربل روحانا؟. ألن تسمع مواويل عدوية كما أسمع ألان أوكولا أوكولا، هل هكذا تترك الأهلي ينهزم أمام برشلونة؟ ومن سيشاهد معي فيلم كوانتين تارنتينو الجديد؟ من سيلتقط البورتريه الأول لآدم؟ كيف سيكون المشهد إذا ما سافرت إلى أربيل من دونك؟ هل ستترك كأسك هكذا فارغا لننزل في منتصف الليل بحثا عن شيشة ومقهى يفتح أربعاً وعشرين ساعة لنتبادل بعضا من كنوزنا الأثيرة؟هل كانت هناك حكمة ما عندما همست لي منذ شهرين في عزاء أسامة الدناصوري وأنت تحتضنني: إحنا بقينا نشوف بعض في العزا بس والا أيه؟، أعتقد أنني لم أفهمها في وقتها، أعتقد أنني الآن أفهمها.

جغرافيا التداعي السحري لمدينة تكتب نصّها الأول


تستدعي كتابة جيل الألفية الثالثة جغرافيا منسية لقاهرة سنوات التسعينات الأولى، جغرافيا كانت ستظل دون هذه الجرأة الاستثنائية ـ التي تميز رواية محمد صلاح العزب الأخيرة "وقوف متكرر" الصادرة عن دار ميريت للنشر ـ بعيدة عن التأريخ الزماني المكاني. فمن دون عمد تخصّص جيل التسعينيات الروائي في التأسي الرومانتيكي على حالة التمدد الديموغرافي لقاهرة السبعينات، التي دفعت عوالم طبقية واجتماعية إلى الانحدار البطيء من أحياء شعبية كلاسيكية إلى أحياء طرفية شكلت البنية الجديدة للعشوائيات الكلاسيكية زمن الثمانينات، أو إستعادة سحر التأرجح من جهة أخرى بين المدينة والريف. مثلاً يؤرخ ياسر عبد اللطيف في روايته "قانون الوراثة" لهجرة من حي عابدين ـ وسط العاصمة ـ إلى ضاحية المعادي دون إهتزازات طبقية عنيفة، فيما ينشغل مثلاً عدد لابأس به من هذا الجيل بتأريخ الجيل الثاني لمهاجري أسر الستينات الشهيرة؛ لدينا منصورة عز الدين تتأرجح في إغتراب بنت القرى في إكتشافها المدينة تحت أعباء الوراثة العالية الثقيلة لأسرة ريفية برجوازية قديمة، ويؤرخ أبراهيم فرغلي لمدينة وسيطة في مدن الدلتا الغنية، فيما يستمر متحف اكتشاف الجذور مفتوحا على مصراعيه في أعمال خالد إسماعيل وأحمد والي، بمعنى آخر لبثت القاهرة في نسخها المتحولة بدءاً من التسعينات خاصا في أحياء الطبقة العاملة التقليدية (حلوان ـ شبرا الخيمة) بعيدة عن مرمى الرواية الجديدة، بعيداً عن رصد تلك التحولات العنيفة لانهيار دراماتيكي أصاب أجيال جديدة تنتمي لحراك طبقي نازل من جلجة التركة الضخمة لانهيار القطاع العام الحكومي، حيث تنازلت الدولة في إطار تكيفها الهيكلي مع متطلبات السوق والانفتاح عما تبقي لها من نموذج دولة الرفاه الستينية؛ ويأتي عمل "وقوف متكرر" ليقدم عالم هذا الحراك النازل ممثلاً في أسرة بسيطة تتجول عبر عين الراوي، الشاب المراهق، بين نموذجين للتمدد الديموغرافي للقاهرة، بين حي شبرا الخيمة العمالي ذي التركيبة المنتمية لقاع الطبقة العاملة، وحي مدينة النهضة الصحراوي الذي صممته الدولة على هيئة مساكن شعبية فقيرة في أقصى صحراء شرق القاهرة لاستيعاب تدهور البنى التحتية في أحياء الطبقة العاملة القديمة، من الجحيم إلى الصحراء الكوزموشعبية، من هدأة نمط القيم المستقرة إلى وحشة إكتشاف الخليط المنهار الذي يتداعي في صحراء معزولة، و تقاطعات تلك الانتقالات تجد ذروتها الأولى في محاولة الراوي المراهق الانفصال عن منزل العائلة عائداً للسكن في حجرة كئيبة بالحي القديم، هذا الخيار كان يراهن مثلاً على إبتعاد حقيقي حين بدأ الشاب جولة بحثه من قلب وسط البلد، لكن تواضع قدراته المالية يعيده إلى نقطة الإنطلاق الأولي (منطقة أحمد حلمي الشعبية بحيه القديم، حي شبرا)، منذ اللحظة الأولى يدخلنا العزب في أزمة شاب مراهق يبحث عن مكان خاص يصلح لتحويل فنتازياه الايروتيكية إلى واقع ولو للحظات مع إمرأة تعاني من إحباط الزواج الفقير، هذا التأرجح بين جغرافيا الحي القديم خروجاً، والحي الجديد إغتراباً والعودة إلى الحي القديم هروباً، هو ركن الزاوية المكانية التي يصبح الوقوف المتكرر عبرها وقوفاً إلزامياً، دوران في فراغ تؤسطره محاولة البطل التمرد على هذه الجغرافيا بشراء سيارة فيات 128 خربة، علّها تساعده في تمرده على سياقه الاجتماعي. سيارة ربما تصلح للحظات مختلسة من المتعة البورنوغرافية مع داعرات يمارسن أعمالهن في شوارع مدينة نصر ـ الحي الراقي غير البعيد جغرافياً، وتبدو ضفاف السرد محكومة بتلك الإقامة الجديدة ووسيلة الارتحال الخربة، كلما حاول البطل الابتعاد بسيارته التي إشترك مع صديق له فيها، بعد مشاريع كثيرة مجهضة يعيده مرض والده أو العلاقة العاطفية الطفولية مع إبنة خالته إلى مساكن النهضة، يحاول هو التنصل دائما من تلك الإرتباطات القديمة مفضلا البحث عن مصير جديد دون أي مقدّرات اقتصادية أو اجتماعية تخرجه من مسار الارتباط العالي، حيث العائلة تهوي في قيعان الحكمة المصرية التقليدية بالصبر على البلاء حتى الموت المجاني، تاريخ هذا المنحى الاستقلالي الطائش يتوازى مع الانهيار الأخير لوالد البطل وهو يصارع موتاً مؤكداً، هذا الأب المتعاطف مع تمردات ابنه يبدو وحده الدعامة الرئيسية لهذا العالم الجديد، بتواطئه الشفيف وتشجيعه الصامت علّه ينقذ ابنه من تكرار المصير السيزيفي. الابن يتشكل مسار تجواله الهذياني من شذرات قاع المدينة، مدينة جديدة لم تقدم من قبل، سمسار يمارس سطوة غير مبررة على الشابين الباحثين عن غرفة، يتحولان تحت وطأة البحث عن الغرفة إلى تابعين منومين ينفذان مشيئته، صاحبة الغرفة بذيئة اللسان والمغوية بتهتك عنيف، ميكانيكي السيارة الذي يعيش في حكاية طويلة عن غزواته الجنسية المتخيلة لبنات الطبقة العليا، فيما البطل بين نصف مصدّق ومتمنٍّ لصدقية الحكاية علها في لحظة تكون حكايته الحقيقية، داعرتان من حطام المدينة إحداهما طالبة جامعية تمارس الدعارة بزي وكشكول المحاضرات المضموم للصدر، بشرط الحفاظ على غشاء بكارة يبقى وسيلتها الوحيدة للتفاوض مع عريس مستقبلي مشته، والأخرى تستعير أداءها من أفلام السبعينات، أكثر حرفية وقد قطعت المشوار إلى آخره. إمرأة المترو التي خاض البطل معها نضالات واسعة لمجرد أن يصطحبها إلى غرفته أخيرا، دراما عنيفة لتسكع طويل بحثاً عن العمل وأحلام خائبة بإمكانية الثراء فجأة، إنها مرثية طويلة لجيوش عاطلة ستراها تهيم على وجوهها في فضاء وسط العاصمة أو على مقاه الأحياء الشعبية، يمارسون ذلك النضال المحموم اليومي للتعلق بقشة الحياة، محاولات محمومة للنجاة من مصير محتوم هو السقوط في فراغ طاحونة المدينة التي لا ترحم؛ مسيرة البطل أقرب لتلك المسيرات التي توشك في كل لحظة على السقوط، لكنها تستمر فقط بمصادفة لا تخضع لأي قانون. كان الراوي إذا أقرب إلى إستكمال هذا التيه لكنه استطاع إحكام تأطيره لهذا الفاصل القصير في حياة البطل حين دفع بقدره إلى لحظة مفصلية تتقاطع فيها الأحلام مع الواقع؛ إقترابه أخيراً من تجربة جنسية حقيقية، تنهيها بغرابة زيارة خطيبة المستقبل وموت الأب يعيدانه لحمل صخرة الحبل السري. مشاهد خفيفة من تتابع إجراءات الوفاة يحولها الراوي إلى متتالية ساخرة من المفارقات. غزله للممرضة ومعركة امه مع جارة قديمة كانت تغار منها وقد إلتصقت بركب الأسرة في المستشفى إثر إحتجازها لعمل عملية البواسير، تفاصيل نقل جثة الأب وقد أصاب الأبن لمسة من الطيران فوق تداعي عالمه، تنهار قصة السيارة بعد أن يبلغه صديقه بنيته في إتمام خطوبة مفاجئة ومن ثم ضرورة فض الشراكة في العربة، جلسته في العزاء وهو يراقب في نهاية الرواية طفل يدلي لعبة مربوطة بخيط من بلكونة مواجهة، وكأن جلسته تلك ستدوم إلى الأبد. نهاية تشبه إلى حد كبير لقطة الختام البديعة لفيلم "الوعد" لشون بين، حيث يجلس جاك نيكلسون يهذي فوق أرجوحة طفلة منتظرا قدوم الشبح الذي طارده طوال الفيلم.محمد صلاح العزب في عمله القصير البديع ـ (97 صفحة) ـ يقدم صفحة جديدة في سرد مدينة وعالم القاهرة التي ربما لا زال الحديث عنها حكراً على تحقيقات صحافية أو أبحاث إجتماعية. قاهرة مجهولة وبعيدة تحتاج إلى جيل كتابي جديد، والعزب سيكون بعمله ذلك مكتشفها الأول.

إعلام الجلد السميك للضحايا... وتأبيد الخراب العام


يجلس أحد ضيوف برنامج "90 دقيقة" الذي يعرض على شاشة قناة المحور الفضائية المصرية (تشارك الدولة فيها بنسبة 55 في المئة) ليتحدث عن وقائع مهولة جرت في فيلا أحد الطيارين بمدينة الشروق الصحراوية الجديدة. الضيف عامل ريفي متعلم رحل من قريته بسبب حمّى البطالة الريفية ليعمل في فيلا ذلك الطيار مُستخدماً من قبله وقبل زوجته الطبيبة الشهيرة. أدعت الزوجة أن مستخدمها أعطى نمرة تليفونها الخاص لأصدقائه الذين أزعجوها معاكسة وتحرشا، فما كان منها، لتأديب مستخدمها خائن الأمانة، إلا أن إستأجرت إثنين من البلطجية في مهمة عمل سريعة تحت إشرافها، وهي تعذيب هذا المستخدم لنحو 36 ساعة متواصلة بمشاركة زوجها الطيار الذي سارع، بعد رحلة سريعة إلى كوالالمبور، إلى اللحاق بحفلة التعذيب لنحو 12 ساعة متواصلة (وفقاً لإعترافات الضحية وتصريح محامي الطيار).يحكي الضحية عن مشاهد وتفاصيل لا يمكن في البداية تصديق أنها مجرد رد فعل بأي شكل على تصرف المستخدم، عن أنماط من التعذيب لم نسمع عنها إلا من قبل الأجهزة الأمنية الإحترافية، مع خليط من تكنيكات أبو غريب وغوانتنامو مع حقوق حصرية لوسائل تعذيب ستسجل بإسم الطيار وزوجته، مثل إستخدام محلول معلق يستخدم عادة كدواء لحساسية الكلاب في دهن الجروح النازفة للضحية العارية وعصر الليمون عليها لإدامة عذابه؛ هتك العرض وتصويره بكاميرا فيديو ثم مشاهدته من قبل الطبيبة وحدها في غرفة النوم، ثم إعلان عدم رضاها عن "الماتريل"، ومن ثم إعادة عملية الهتك؛ إستخدام أغطية الرأس المثقوبة لتتنفس الضحية والحبس في قفص الكلاب؛ كولاج مبتكر من أخيلة سادية وجدت ضحيتها النموذجية لتمارس معها لعبة محببة للمرة الأولى... يحكي الضحية مصطحباً أهله في الحوار بمنتهى المذلة التي يشوبها بعض من فخر الضحية المازوخي وقد وجدت أخير كاميرا لتسجيل شهادتها، فيما المذيع معتز الدمرداش يقف عند كل تفصيلة من سيناريو التعذيب فاغراً فاه مشدداً على ذكر الأشياء بإسمها ومعناها وكأن يتكئ على المشاهد ـ الذي يبدو من وجهة نظره جاهلاً بمعنى هتك العرض ـ ليؤكد بأسئلة تفصيلية مملة على كيفية وقوعها إجرائياً. الضحية لاتملك وهي تحكي خيار التورية بل هي تكاد تعيد تمثل المشهد كما في برامج التلفزيون الأميركية ولا يتبقى لها إلا الإشراف إخراجياً على مشهد يؤديه ممثلون، وبين حكاية الشاب المعاد تشكيلها بكل الإكسسوار الإيمائي والصوتي، تعرض مادة فوتوغرافية لمعاينة النيابة لنتاج التعذيب على جسد الشاب لحظة إنقاذه. بين كل جملتين لا ينسى الضحية أن يوجه الشكر إلى العميد كذا والعقيد كذا رئيسي مباحث مدينة الشروق اللذين لولاهما لقضى المتهم حياته داخل الفيلا معذباً حتى الموت. لكن بين تفاصيل حكايته هناك أكثر من مفصل مدهش للتعبير عن صدام الإرادات في مجتمع يعاني من سيولة عنيفة في تصادم قواه القمعية. يحكي شقيق الشاب الضحية، والذي كان يعمل هو الآخر مستخدماً عند طيار آخر جار للطيار الأول، عن أنه، عندما سمع من الناس المتجمهرين حول فيلا التعذيب، أنه دخل الفيلا سائلاً عن أخيه الذي أفزع صوته المستجير ليل منطقة الفيلات الفاخرة، فما كان من فريق التعذيب إلا أن ضمّه، بمجرد دخوله، إلى مشهد التعذيب لمدة خمس ساعات مربوطا مع أخيه في أشجار حديقة الفيلا. وعندما أحس طياره (مستخدمه) بتأخره، ذهب إلى الفيلا الغوانتناموية سائلاً عما يحدث، فأطلق الطيار كرمى لصديقه سراح مستخدمه قائلاً له: اللي ليك خدته واللي عندي دا بتاعي وأنا حرّ فيه. فإنطلق شقيق الضحية إلى قسم شرطة المدينة مبلغاً عما يحدث لأخيه في تمام السادسة صباحا فإصطحبه قائد الشرطة بقوة من الأمن إلى الفيلا. وقفت القوة الأمنية تستأذن الجلاد دخول الفيلا فلم يسمح لها بالدخول، فيما المشهد داخل سور الفيلا يتابعه الجميع من أسطح الفيلات المجاورة والمصطفون بالشارع يتابعونه سمعياً. ومن هذه اللحظة، أي من الثامنة صباحاً وحتى الثامنة مساءً، لم تستطع الشرطة الدخول إلى الفيلا حتى مع عودتها بتصريح من النيابة بتفتيشها. إثنتا عشرة ساعة كاملة من تفاوض الإرادات التي هي بطبيعتها ضد الصدام، لكن الواضح ان الطيار الجلاد كان يجري إتصالاته بمرجعياته داخل نفس السلطة للتعمية على ما يحدث لديه، فيما الضابط المسؤول قد أثارته ربما لأول مرة في حياته وقاحة قوى موازية فتعامل مع الأزمة على أنها مسألة كرامة الشرطة التي إحتجزت مثلها مثل جماهير المشاهدين خلف أسوار القلعة المحمية بمنصب ونفوذ طيار. هذا التصادم وحده ربما كان السبب في أن يتصاعد الموقف، فما أكثر الممارسات التي يتم التعمية عليها بتوازن وتوازي الإتصالات داخل الخطوط المشتركة للسلطة ذاتها، بمعنى آخر يحق للضحية أن تشكر ـ جاهلاً بهذا الميكانيزم ـ منقذها السماوي الذي هبط عليها في صرعة كرامة مفاجئة ليعيد للشرطة هيبتها لا أكثر. فمهمة التعذيب قاصرة وحدها على نظام الشرطة ومشاركة آخرين لها هو تنازع في الإختصاص. أقول "ربما" لأن الواقع يقول ذلك. ففي هذا العام شكلت إنتهاكات الشرطة لحقوق الإنسان أكبر مآسي النظام المصري، خاصة بعد أن أصبحت تلك الإنتهاكات موضة إعلامية ومدخلا للمزايدة بين الفضائيات (أزمة فيلم "خلف الشمس" لقناة الجزيرة لا زالت حاضرة في الأذهان). والمدهش ان هذا السبق بفتح ملف التعذيب المصري كان في البداية حكراً على الفضائيات المصرية الخاصة ومكاتب الفضائيات العربية النافذة في القاهرة. قناة الأوربيت إفتتحت الموسم بقضية عماد الكبير وإغتصابه بقسم شرطة بولاق، ثم توالت القضايا التي كشفت عنها فضائيتا دريم والمحور، وكانت البداية قد دشنتها تلك القنوات بعرض الإنتهاكات التي تمارس تجاه المتظاهرين السياسيين. فهل يمكن القول عن معيار شفافية جديد تبخر من تحت طنجرة النظام لفضح ممارساته التاريخية؟ أم أن القضية بمجملها هي نتاج حركة المكاسب التي حققها الإعلام في توقيت إشاعة النظام جواً إصلاحياً زائفاً؟ الإجابة لا يمكنها أن تكون رهينة فقط بخيارين منتظمين كما في الإحتمالين السابقين، خاصة وأن الباحث في الظواهر الجديدة الخارجة من مناخ مصر في العامين الأخيرين لا يستطيع الإرتكان الهادئ التبسيطي إلى عامل وحيد واضح وشفاف لإنتاج تلك الظواهر. لكن العودة لتعريف دور الإعلام كسلطة رابعة منظمة وضاغطة على السلطات الثلاث التقليدية، يضعنا أمام مفارقة كبيرة.فالإعلام الذي يستمد سلطته التعريفية من رأي عام له حقوق عليه ومن ثم يشكل بهذا الدور الكشفي لظواهر الإستبداد السياسي إلية مبدئية لمحاسبة المسؤولين عن هذه الإنتهاكات، يقف مراوحاً حين تصب كل تلك المكاشفات أمام سلطة أدمنت حشو أذنها بالطين والعجين. بمعنى أن الآلية التي تبدو ستؤدي إلى مكاشفة وفضح تنتهي عند حدود العرض الفارغ لهذه القضايا دون أن يؤدي ذلك إلى محاسبة احد أو مكاشفة أحد. شاشة عريضة من الفضائيات تعرض المأساة المصرية بحس التنصل من المسؤولية وإلقائها على قارعة الطريق تبحث عمّن يكمل مهمتها. الأمر لا يتعلق فقط بإنتهاكات حقوقية وإنسانية، فالشاشات تعرض يوميا كل مظاهر التحلل البطيء للدولة: فساد في الصحة والتعليم والنظام العام والهوية الوطنية دون أن يحرك ذلك شعرة قلق في رأس النظام. الإعلام هنا ليس إنتحارياً لغم أجساد مذيعيه ومعدّيه ومخرجيه بغية تفجير الوضع او البحث عن حقيقة ما، ليس أكثر من مجال تنفيس واسع لأشياء يعلمها القاصي والداني. هو ينقل فقط فضاء النميمة المجتمعية في المقاهي والجلسات الخاصة وحكايات جانبية ربما تلتقطها في أي حديث بين إثنين في الشارع المصري إلى سجن الصورة. يؤمم السيرة الشعبية للهموم الوطنية داخل أشرطة تلفزيونية ربما تنتهي أهميتها بعد أن ينهي المخرج فقرة الهواء. إنها ثرثرة تنطلق من الهواء لتنتهي إلى الهواء. والدليل ان المتلقي الجالس ليشاهد ضحية التعذيب التي تتحدث بخجل (كان الضحية يصر على تسمية الطيار بالبيه وزوجته بالهانم رغم مأساوية المشهد الذي يشاركهم فيه)، ربما يحدّث نفسه قائلاً: وما الجديد فهذا يحدث يومياً وفي كل مكان. وفي إطار رثائه لحاله وحال الضحية ربما يدفعه الأمر إلى التشكيك أصلاً بالقصة رغبة منه في المشاركة بالحدث، حتى ولو بهدم توحده مع الضحية، توحده مع ضحية يكرهها كما يكره نفسه لعجزه عن الإنتقام من جلاديها. فيلجأ إلى الإنكار علّه يدفع بمورفين جديد إلى حياته التي لابد ان تستمر.لن تدفعه حكاية الشاب المعذب أبعد من تمني ألا تضعه الظروف في محله. لن تدفعه لرد الصفعة التي ستهوي على وجهه من ضابط شرطة في ميدان عام، ستجعله أكثر أريحية في إستقبالها لا في التمرد عليها. لأنه ببساطة إبن لمجتمع يهوى مازوخيته، ويكرس إعلامه لإدامة النظر الفارغ في عيون الضحايا. يكرّس للإنتهاك كواقع حياة وتمنّي دفع حادثة الإنتهاك القادمة بعيداً عنه. وفي هذا الإطار أعجبني للغاية موقف آخر ضحايا كلاب الأمير ترك حين ظهر على شاشة المحور مستسلماً للغاية، فيما المذيع يحرضه على تقديم بلاغ في اليوم التالي للنائب العام، إبتسم الفتى ساخرا من المذيع قائلاً له: "أنا مش عايز حقي يا أستاذ معتز... شوفو أنتو حق البلد وخدوه... أنا مش أشجع من مصر اللي ليها حق ومحدّش حيخده، أنت متخيّل أن النائب العام حيقدر يعمل حاجة مع الأمير؟... حقي أنا ربنا يعوضني فيه..."، صمت معتز الدمرداش لاعناً ذلك الحديث الذي دفع بالمسؤولية إلى آذان الطين والعجين، فيما الشاب قد لخص مصير ألف ضحية قادمة ليس للأمير وحده بل لأي قوى إستبداد عابرة ستختار ضحيتها بمنتهى العشوائية كي ترى في عيونها الخوف. الإعلام ومن قبله الصحافة التي تتمدد على صفحاتها يومياً مظاهر هذا التحلل الرهيب للمجتمع، لا تبحث، كما يعتقد البعض، من منظري التراكم الطويل عن شحذ المقهورين للحظة قادمة لا محالة حين تنقلب إلى منتقم جبار سيطيح بكل هذا التاريخ. إنها، وهي تقع على الحافة مكرّسة خيال الخراب العام، تبتلع قواها فجوة سوداء من عبث، فجوة لن تدفع يوماً بالصهير إلى السطح، بل هي تدفع لتكلس الأبدان بالجلد الميت، الجلد الذي يتجدد يومياً لتحمل سياط الجلاد لا أكثر. فسمك الطبقات الميتة على هذا الجسد سيحمله الشعب إلى مثواه الأخير. إنها ليست سوداوية بلهاء، إنها مجرد بعض من خبر الحقيقة المؤسفة.

رحلة البحث عن رأسمال معرفي يُبدّده بثّ الفضائيات


ماهو حكم الإسلام في الباب الخشبي؟ أو ماهو حكم الإسلام في أكل لحم الجان؟ هكذا ومنذ زمن بعيد كنت أستمع إلى برنامج "أفيدونا يرحمكم الله" بإذاعة القرآن الكريم، والذي كان يتولى فيه علماء أزهريون أفاضل الرد على أسئلة المستمعين. لكن الأسئلة كما تقدم لم تكن تخرج عن هذا الإطار، بعض من الفانتازيا وكثير من الهوس، أما فضيلة الشيخ فكان مضطراً بكل تهذيب للرد على تلك الأسئلة بمنتهى الجدية والوقار. نعم وقار لا يمكن وصفه إلا بسلوك من تحكم في انفعاله داخل عزاء خشية أن ينفجر في الضحك. هكذا تخيلت نفسي للحظة أمام تلك المهمة الجبارة التي هي أمانة في رقبة شيخ ربما تكون تلك كل وظيفته في الحياة، أن أكون في موقعه مضطراً ـ مخافة أن أتجاوز نصاً أو سنة ـ لمراجعة مئات الكتب الدينية بحثاً عن موقف أو حكم في الباب الخشبي، أو على أقل تقدير عدم الاستخفاف بغباء السائل الذي يتحدث عن لحم للجن، والمسلم القاصي والداني يعلم أنها كائنات ذات طبيعة غير مادية لايصلح معها الأكل والطبخ، هذه كانت بعض من الأفكار التي تراودني كثيراً مع استماعي في فترة الطفولة للإذاعة ذات المحتوى الثابت منذ نصف قرن، لدرجة إني كنت أتخيل أحياناً أن بعض تلك الأسئلة ما هي إلا خيال مُعد الفقرة وربما الشيخ الجليل المجيب نفسه، لأن ببساطة من يسأل عن حكم الدين في باب خشبي ويرسل رسالة في مظروف وينتظر الحكم كان جديراً بصورة كاريكاتيرية يظهر فيها السائل ونجار وبعض الجيران متحلقين حول باب لمنزل يستند إلى جدار بأحد الشوارع ويضعون أمامه المذياع في انتظار إجابة الشيخ الجليل التي إما ستجعل النجار يركب الباب أو تضع الباب في حكم الحرام، مما يستتبع ذلك من خيال لأزمة الباب وانكشاف داخل المنزل أمام المارين في شارعه ثم الدخول في باقي ذلك الخيال المضحك. من ناحية ثانية يبدو سؤال آكل لحم الجن وطبيعة فانبيارية أصيلة، حيث في حالة الإجابة عليه بأنه حرام كيف سيتصرف السائل في اللحم المذبوح أمامه وقد شمر عن ساعديه مستعداً لشوائه مثلاً. الأزمة أن الشيخ في الحالتين كان مضطراً للإجابة الفخيمة الفصيحة التي تبدأ بالاستعاذة بالله والصلاة على الرسول، مضطراً للتنقيب في أمات الكتب التراثية المرجعية بحثاً عن سيرة ما للخشب في التاريخ الإسلامي تربطه بمعيار التشريع أو التحريم، فيما حاول في الإجابة على السؤال الثاني أن يتحدث عن الطبيعة اللامادية للجن معدداً الآيات القرآنية والأحاديث وأخبار الصحابة الأوائل معرجاً من ذلك على أن الجن بلا لحم أو مرق وإن أكد في النهاية أنه بما أن لا مانع شرعياً واضحاً فهو ـ أي أكل لحم الجن ـ حلال !استدعيت السؤالين خلال هذا الأسبوع كثيراً بعد أن أرقت مضاجع المصريين حادثتان كبيرتان على نفس المنوال، تحدثت منهما الصحف، واجتمع على أثرهما شيوخ الأزهر، ودشنت لهما ساعات محترمة من البث التلفزيوني، ناهيك عن ساعات الثرثرة الممتدة من البيوت إلى المقاهي إلى التجمعات العامة، والأولى تفجرت كالعادة مع سؤال ـ لا أشك لحظة في مكر سائله ـ وجه للدكتور عزت عطية، أستاذ ورئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين وأحد علماء الأزهر الأجلاء، حول حكم الاختلاء برجال في مكان العمل، الأمر الذي جعله يفتي بضرورة إرضاع المرأة العاملة لزميلها في العمل خمس رضعات مشبعات كي تحرّمه على نفسها. ولنتخيل وقع هذه الفتوى التي أثارت خيالاً مجتمعياً كوميدياً وقد تحولت، بمجرد ترديدها، حيث حملتها الصحافة على أجنحة الريح لجمهورها المتشوق للإرضاع، إلى أزمة كبرى، لم يتنصل الرجل عن فتواه الصحيحة شرعا لكنها في الواقع تبدو كارثية المعنى والهدف، وبدأت الناس تتحدث عنها بمنطق الطرفة، وهو ما أشعر الأزهر بحرج الموقف فاجتمع المجلس الأعلى وأصدر قراراً بوقف أستاذ الحديث عن العمل وإحالته للجنة التأديب. أما الثانية فكانت تصريحا للمفتي الشيخ على جمعة رداً على سؤال لأحد المصلين بمسجد السلطان حسن الذي سأل عن حكم التبرك ببول الرسول (ص) فكان رده، كما نشرته جريدة المصري اليوم، واسعة الانتشار: إن الأساس في فتوى تبرك الصحابة ببول النبي صلي الله عليه وسلم هو أن كل جسد النبي صلي الله عليه وسلم في ظاهره وباطنه طاهر وليس فيه أي شيء يستقذر أو يتأفف أحد منه، فكان عرقه صلى الله عليه وسلم أطيب من ريح المسك وكانت أم حِرام تجمع هذا العرق وتوزعه على أهل المدينة.وأضاف جمعة: فكل شيء في النبي صلي الله عليه وسلم طاهر بما في ذلك فضلاته، وفي حديث سهيل بن عمرو في صلح الحديبية قال: "والله دخلت على كسرى وقيصر فلم أجد مثل أصحاب محمد وهم يعظمون محمدا فما تفل تفلة إلا ابتدرها أحدهم ليمسح بها وجهه". وحينما أعطي النبي صلي الله عليه وسلم لعبدالله بن الزبير شيئا من دمه بعد الحجامة فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ادفنه، فرجع فرأي النبي عليه شيء فقال له أين دفنته، قال في قرار مكين فقال له الرسول صلي الله عليه وسلم "أراك شربته ويل للناس منك وويل لك من الناس بطنك لا تجرجر في النار".واستطرد جمعة قائلا: فأخذ العلماء من هذا ومنهم الإمام ابن حجر العسقلاني والبيهقي والدارقطني والهيثمي حكما بأن كل جسد النبي صلّى الله عليه وسلم طاهر في ظاهره وباطنه، وعلى ذلك جماهير العلماء كما نص على هذا أيضا القاضي عياض في "الشفاء" والأمام الغزالي في "الوسيط"، والإمام زكريا الأنصاري في "أسمى المطالب" وابن الرفعة والبلقيني والزركشي، وقال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني "تكاثرت الأدلة على طهارة فضلاته صلي الله عليه وسلم وعدَّ الأئمة ذلك في خصائصه فلا يلتفت إلى ما وقع مما يخالف ذلك فقد استقر الأمر من أئمتهم على القول بالطهارة".وقد أدى رأي المفتي وفتواه إلى تصريح صادم وعنيف جاء هذه المرة من الشيخ محمود زقزوق وزير الأوقاف الذي اعتبر فتوى "التبرك ببول النبي" كلاماً فارغاً وفقاً لما نقلته صحيفة المصري اليوم حيث قال في كلمته التي ألقاها امام جمهور من الدعاة القدامي وخلال دورة تدريبية للأئمة:تعودنا أن تكون الإساءة للإسلام من أعدائه والحاقدين عليه، وهذا يحدث منذ ظهوره. ولكن الموضة الجديدة هذه الأيام ـ للأسف الشديد ـ الإساءة للإسلام من أبنائه وأتباعه ومن هذه الإساءات، التي ظهرت مؤخراً، الفتوى التي تقول إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتبركون بشرب بول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه إساءة واضحة للنبي صاحب الدعوة، الذي كان نقياً في كل شيء ولا يقبل مطلقاً بهذه التخاريف.هذا التضارب بين جهتين داخل المؤسسة الدينية ليس بجديد، بل هو مرشح للتصاعد خلال الفترة القادمة، فالمتأمل لحال المؤسسة الدينية الرسمية يدرك تماما مفصلية اللحظة التي تمر بها الآن، فقد فقدت شيئاً فشيئاً كثيراً من رأسمالها التاريخي الممتد لقرون في ذاكرة الجماعة المصرية، خاصة وهي قد نزلت إلى وحل السياسة حتى أعلى ذقنها ، وأصبحت سيرة المفتي أو شيخ الأزهر أو وزير الأوقاف في الذهنية الشعبية مرتبطة بموالاة شروط السلطة السياسية وتكييف التشريع الديني كغطاء للكثير من خطايا النظام. وليس بعيداً عن ذلك فتوى شيخ الأزهر بعدم مشروعية الامتناع عن التصويت على التعديلات الدستورية الأخيرة والتي وصف من يقاطعها بكاتم الشهادة مؤثماً قلبه. هذا من جهة، بينما من جهة أخرى تنحو العلاقة بين المرجعية الدينية وجمهورها الشعبي إلى أن تتحول إلى حالة اكثر فردية لا تعتمد على رسوخ مؤسسة بحجم الأزهر. فعوام المسلمين يستمدون تشريعهم الآن إما عبر برامج الفتوى الفضائية، أو عبر سؤال أقرب إمام مسجد أو أي زي لحية موثوق الجانب. تنحو العلاقة أكثر إلى تبسيط يخضعها لمنطق ( سؤال وجواب شاف)، خاصة وقد اكتسب الوعي الجمعي الديني صبغة تشظية تفاصيل الحياة الدقيقة تحت مجهر التحليل والتحريم، وهو المجهر الذي لا يتطلب إطناباً ولغوا وفصاحة أهل العمائم الذين يبحرون داخل كتب الفقه مدللين في أحكامهم جوازاً أو قبولاً أو رفضا بين بحور مذاهب أربعة، فيما المستفسر عن شأن دنيوي يبحث ببساطة عن إجابة الحرام والحلال، وفيما تحاول المؤسسة الدينية النزول إلى معترك التنافس على رأس مالها المعرفي والوظيفي، تنافس شريحة واسعة ممن أصبح الدين تجارة لهم منافسة متأخرة، تنافس على أرضية ملعب جري تأميم نتائجه قبل بداية المباراة، حيث أنتج هوس التدين الشكلي دعاته ومنتجي خطابه المتماثلين في الخيال مع ما يقتضيه العصر من تواصل مع المعارف الحديثة (حتى لو اصطبغ ذلك التواصل شكلانية برجماتية محببة في الملبس واستخدام التقنيات الحديثة كالنت والموبايل). ولنتأمل نموذجاً تحليلياً فيما حدث مع فتوى إرضاع الكبير حيث من الواضح أن سائلها كان يحاول البحث عن سؤال صعب، وهو هل يصح ان تختلي امرأة برجل في مكان العمل. وربما كان ما يريده تحديدا تهدئة مخاوفه على زوجته أو الاستدلال بحرمانية ذلك مبرراً منعها عن العمل، لكنه سأل في المكان الخطأ والشخص الخطأ. الدكتور عزت عطية كانت ستسجل عليه لو استعمل فقه الفضائيات الذي يحرم النزول إلى العمل ومخالطة النساء. لذلك لم يجد حلا إلا الإبحار في ما يضمنه من مراجع وأمات الكتب للاستدلال على إمكان وجود خلوة مع رجل في الحلال.أبحر الرجل خوفاً من أن تسجل على الأزهر سابقة تحريم عمل المرأة فاصطدم بقاع النصوص وأخرج من ظلال الأحكام حكمه الفقهي الذي هو باستدلال بسيط شرعي، لكنه لايناسب لا الحالة ولا الزمان الحالي، ويداوي هاجس وهلاوس التخوين الجنسي بنفس المادة العضوية المستمدة منها، فلكي يصح قياساً اجتماع رجل وامرأة لابد أن تحرم عليه جنسياً. والإرضاع يضع الرجل في محل التحريم ومن ثم على كل إمرأة تختلي برجال أن ترضعهم خمس رضعات مشبعات. ببساطة لو مال المتسائل على جار متدين لحرم له الأمر من بابه، وحرم عمل المرأة وانتهى الأمر. لكنه ذهب إلى الموثوق بهم ـ أي رجال الأزهر ـ فأصاب المجتمع بالصدمة والنساء تحديدا بمداراة الخجل من تلصص عيون الرجال على أثدائهن المشتهاة، وهكذا سيدخل الأزهر حقل ألغام محاولة تطويع جمود اجتهاده في النصوص في مواجهة سوق جائع إلى المطابقة بين حياة جماهيره وأحكام الشرع.أما عن الشيخ علي جمعة مفتي الجمهورية فقد إستسلم على ما يبدو لمحاججة فقهية مكانها الطبيعي بين شيوخ الأزهر وهي لاتهم عموم المسلمين في شيء، وذلك حين اضطر للإجابة على سؤال لامبرر له إلا في قاعات الدرس، مستخرجاً هو الآخر قياس فقهي أكاد أشك في جدواه وفي مراجعه، فما فائدة المسلمين الآن من إذا كان بول الرسول يصلح للتبرك أم لا؟ وعند أي حد لابد ان يقف المفتي والمشرع عند معني وجوهر السؤال المطلوب الإجابة عليه؟ هل هو مطالب بالإجابة عن كل شيء وعلى أي شيء؟ وماهي قيمة الفقه إذا ما وصل إلى مرحلة الإفرازات من بول أو لبن؟ الإجابة واضحة، فلا سقف واضحاً لحجم المعرفة التي باتت تدخل حياة المسلم يوما تلو الآخر، ولا سقف لمعرفة الله ووظيفة الجميع من مؤسسة دينية رسمية إلى فقهاء الأرصفة هي محاولة وضع كل ما هو مفتوح باتساع في الأول تحت سقف المعرفة الإلهية وإلا فقدوا رأسمالهم الوحيد الذي يضمن للجميع حياة إسلامية سليمة لأربع وعشرين ساعة في الأربع والعشرين ساعة، وما اصعبها من مهمة.

بيرة وجيه غالي في صحة النكسة بعد أربعين"هل تعلم أن "علي بن الجنايني"لم يتزوج" الأميرة أنجي



هل تعلم أن "علي بن الجنايني" لم يتزوج " الاميرة إنجي"؟
"بيرة" وجيه غالي.. في صحة النكسة بعد أربعين عاما
هاني درويش
ماذا تفعل إذا ما فاجئتك تلك اللحظة دون إستعداد؟ تلك اللحظة التي يئن في أثناءها الجميع حفرا في الجرح الغائر لذكري نكسة يونيو الأربعين ، ولمزيد من الدقة لذكري هزيمة حملها الجميع أعباء تراجعاتنا المدوية قوميا ووطنيا ، وصارت شيئا فشيئا نقطة عودة سوداء حين يحاول الجميع البحث عن نقطة البلاء الأولي التي هطل بعدها سيل الترنح المدوي ، بصراحة أخري لم يكتف الجميع بذلك بل حولوا- فيما هم يجترون تلك الصدمة المدوية عاما تلو اللآخر- مناسبة الفخر الزائل بنصر أكتوبر ، إلي نصر معنوي لا أكثر ، نصر مسح العار لكنه لم يضف شيئا علي أي مستوي سياسي أو عسكري أو نفسي جمعي بل وربما أتت نتائجه السياسية المباشرة – إتفاقية السلام – لتؤكد لنا نحن المصريون أن تقطع أنفاسنا لنحو ثلاثين عاما في قضية فلسطين كان لابد أن ينتهي بأي شكل ، عموما وفي جميع الأحوال يبدو جيلي تحديدا ممن لم يروا نصرا أو هزيمة ، وتلقفوا بشكل سماعي محبب سيرة الأباء و الأقارب الذين يحكون عن لحظات الصمود والنصر ، هذا الجيل إبن إنجاز تلك المرحلة فنيا وحكائيا ، حتي لو إستمرت وتواصلت النتائج المرعبة لتلك التواريخ في حياتنا بشكل غير مباشر – المد الأصولي الغامر بعد هزيمة يونيو وإحساس اللآمبالاة الشعبي تجاه كل ماهو سياسي نتاج تحولات السادات – أقول أن مجري تواريخنا الشخصية التي ربما يرتكز مشهدها التأسيسي مثلا علي مشهد مقتل السادات مثلا يوم العاشر من رمضان عام 1981 ، ذلك المجري يحتاج إلي تعكير مقصود لتقليب مياه التاريخ كي نبقي جذوة العداء تجاه إسرائيل موقدة إلي أبد الأبدين ، رأينا الثورة فيلما وأغنيا وبرنامجا وثائقيا ومثلها النكسة المختصرة في خطاب التنحي الشهير ومشهد رفع العلم علي سيناءفي إنتصار أكتوبر كملخصات سريعة لتاريخ لا نجد له علاقة بما آل إليه حالنا الآن، وقبل أن يصرخ مدعي التواصل التاريخي الزائف ، أؤكد لكم أن مساحة القطيعة بين تواريخ تلك الأزمنة وبين كم ونوع زمننا المشوش بألف نوع من الأرق مساحة شاسعة ، لن يحييها فيلم " أبناء الصمت " أو " العمر لحظة " أو " الرصاصة لازالت في جيبي" ، لن يستمر الحماس طويلا لأغنيات " وصباح الخير يا سينا " أو "خلي السلاح صاحي " ، أما فيما يتعلق بالثورة ورجالها وزمنها وتلك النوستالجيا- التي تسكن عيون أبي فتدفعه للبكاء كلما شاهد فيلم الحرام- فهي تستحق التأسي علي تلك الرومانسية التي لانتمناها في أنفسنا ، القطيعة وحدها مع تلك التواريخ بما تحتويه من لحظات مجد وهزيمة ربما هي ما تدفعنا للنظر إليها بحياد بارد ، حياد نحتاجه كي نتعامل معها كتاريخ صالح للدراسة لا للتحزب، كأيقونة تحتاج إلي مجهر علمي لإزالة عوامل النحت والإرساب التي تركها الزمن المنقضي ، وفيما نحتاج إلي ذلك الحياد لابد أن نضمنه تنزيا علميا لكامل المواقف المسبقة ،لأرائنا المعلبة الجاهزة للطهو السريع في مطابخ عقولنا الجمعية ، هكذا مثلا تخليت عن كل الشبهات التي وصم بها عمل الروائي المصري " وجيه غالي " " بيرة في نادي البلياردو"، ذلك العمل الذي إحتاج نحو 43 عاما كي تتصالح معه اللغة العربية ليظهر أخيرا في ترجمة عربية من إصدار دار العالم الثالث بالقاهرة ، ولمن لا يعرف وجيه غالي فهو أبن أسرة أرستقراطية قبطية ذو ثقافة إنجليزية ، عاش فترة زهو الأفكار الإشتراكية نهاية الأربعينيات وإرتبط بفتاة يهودية مصرية ماركسية ، لكنه سرعان ما هاجر إلي إنجلترا بداية الستينيات ليكتب واحدة من أهم الروايات – إن لم تكن الأهم – في نقد ثورة يوليو بالغة الإنجليزية ، ويكون أول مصري تطبع له مطبوعات بنجوين الشهيرة عمله ، بمعني آخر نحن أمام نموذج كامل لمتهم بالعمالة علي النمط الستيني وحتي الآن ، فوضاوي، برجوازي، قبطي ماركسي، يحب يهودية ماركسية، ويكتب بلغة أجنبية، و أخيرا يزور إسرائيل، وما يتبقي له كي نضعه في هولوكست الجماعة المصرية أن يكون زنجيا مثلا ،وأزمة "بيرة في نادي البلياردو " الحقيقية والتي دفعت ناقدا عرف بماركسيته كغالي شكري إلي إتهام كاتبها بالعمالة و العمل لصالح دولة إسرائيل ، أنها رواية صادمة بكل المعايير ، علي المستوي النقدي الذي وعلي مايبدو لم يكن ليستسيغ في هذه اللحظة المبكرة شخصية البطل الضد كما قدمها في شخصية "رام " ،أو ببناءها المدهش المنافي لطبيعة السرد الروائي التقليدي في هذا الوقت ، أو بلهجتها الساخرة والعبثية من كافة أقانيم الإيدولوجيا الفكرية والأدبية السائدة خلال تلك الفترة ، أو بمعني أدق أزمة هذه الرواية أنها مبتكرة وحداثية ومفارقة بالكامل لزمن أبداعها ، ثم هي بعد ذلك كله – وربما قبله- رواية مكتوبة بلغة إستعمارية ، تستفز الحساسية القومية والسياسية علي أكثر من صعيد ، رواية تفضح – دون إدعاء أو قصد- وهم التحولات الطبقية التي يزايد بها دراويش الثورة ، حيث عائلة البطل رام القبطية الثرية لم تخدشها الثورة إلا كبريائها الطبقي الإستعراضي بينما بقت مقدراتها الإقتصادية – ومقدرات كل الطبقة من خلفها – مستقرة ،ليس كما إختصرها فيلم" رد قلبي" بهروب الباشا من السراي أو ما تجرأعليه محفوظ لاحقا فأسكن الباشا بانسيون "ميرامار" الفقير ، أنهم كما هم وكما ظلوا دائما يتحركون بين نادي الجزيرة وبار جروبي ومحلات شراء البضائع المهربة المستوردة بينما زاد طبقتهم حضور الضباط الأحرار في كافة التفاصيل ، لا كأعداء طبقيين بل كشركاء في نهب نفس الوطن ،كما تقدم الرواية عالما قل أن تراه في الأدب المصري لقاهرة مابعد الثورة وقد إختل طابعها الكوزموبوليتاني قليلا دون أن ينهار بالكامل، إستبدال البرجوازية الإنجليزية القديمة ببعض الإكسسوار الأمريكي الصاعد ، ثم أخيرا السخرية من كل شيئ ، رام الصعلوك المختال بثقافته الإنجليزية في قاع هرم عائلة غنية يمثل هو وأمه رديفها الفقير ، المتنطع والمقامر السكير علي حساب أصدقاءه ، الساخر من الإنجليز في إنجلترا ، الساخر من الأقباط في مصر ، المزدوج الإنتماء لمصر وإنجلترا في نفس الوقت ، المتهكم الائم علي ثورية صديقه فونت وحبيبته إدنا ، المدافع عن ناصر أمام تبجح عائلته وشيفونية التعالي الإستعماري لأصدقاءه الإنجليز، الذي يحب بهزيان طفولي ويتزوج في النهاية بإنتهازية من فتاة تافهة غنية كي يجد من ينفق عليه وعلي أمه ، حتي الماركسية لم تسلم من سخريته وهو يتذكر ما فعلته الستالينية المباركة بأبناءها في بولندا،حتي إسرائيل المتهم بالعمالة لها يظهر عبر أكثر من مفصل تحليله المبدئي لها كدولة عنصرية ذبحت الفلسطنيين ، بل أنه عندما يناقش حبيبته اليهودية المجلودة علي يد ضابط شرطة طارحا عليها سفرها لإسرائيل ترفض الأخيرة مؤكدا أنها مصرية ، بل وعندما تسافر إلي إسرائيل سرا لزيارة زوجها المقعد تعود لتستكمل حياتها في مصر ، بمعني آخر لم يترك " رام " أو وجيه غالي- كما يحب خالطوا السير الأدبية بالسير الحياتية - منفذا لمتحسسي بطحات العروبة والقومية والطبقية والشيفونية الوطنية ، أو ربما ولأنه ضرب جميع الأعراف المستهلكة لكل هؤلاء إنصبت عليه اللعنة من الجميع ، يحرض عليه غالي شكري متحسسا ندبة موقف الماركسيين المصريين المبدئي من قضية تقسيم فلسطين ، وإنبهار تيار بالكامل بمشاعية العمل في الكيبوستات وقد مرت الخدعة علي الإتحاد السوفيتي الأم لنحو عشر سنوات ، ثم هو يفتح الجرح الغائر الذي لم ينغلق حين يربط الماركسية باليهودية بالحب وقد خرج أفذاذ الحركة الشيوعية المصريية الثانية من معتقلات عبد الناصر ناكرين تلك الحقيقة آملين مشاركة الراعي الصالح الذي جلدهم لسنوات في مشروعه الوطني الإشتراكي النبيل ،لكن ايضا خلف كل ذلك الهدم للتابوهات ، كان هناك ذلك الإحساس بعبثية الطريق الذي إختطه الثوار لهزيمة أنفسهم ، فرام العدمي في بحثه المحموم عن معني لحياته ، لإنتماءه ، لوطنه ، يكشف أكثر مما يجب عورات المجتمع الجديد الذي لايدري أنه ذاهب لا محالة لإنتحار جماعي، يقولها رام ولا يقولها في آن ، تشعر بها تلك النكسة القادمة بين السطور ، تتمناها كي تصحو القطعان من نومها العميق ،
ولا يخصك في هذا التوقيت وبعد أن تقرأ هذا العالم الساحر والجديد أن يكون رام أو غالي قد سافر إلي إسرائيل وكتب عنها في الصنداي تايمز كما إدعي غالي شكري ، أو أن يكون قد مات منتحرا ووحيدا عام 1969 في لندن – وإن يبدو رام أو غالي الذي بتنا نعرفه متوافقا مع هذه الدراما العنيفة – ، لكنك ستتشكك لا محالة في هذا الإيحاء الإشتباهي الذي تركه غالي شكري عندما قرن نجاح الرواية وطباعتها أكثر من مرة لمجرد إحتواء غلافها في نسختها الإنجليزية علي تنويه بأن كاتبها كان من أشجع المثقفين الذين سافروا إلي إسرائيل ، فأي قارئ يجيد فقط القراءة سيعلم مواقف غالي الحقيقية من إسرائيل وغيرها ،بل سيعلم موقفه حتي ممن كتب هذه الجملة الرخيصة علي الغلاف ، وسيعلم كذلك أي سحر غامض تغاضت الكتابة المصرية لنحو نصف قرن عن إكتشافه في ذلك الجانب الأخر من الثورة الذي ما بات يعنينا فيه بحق أن تكون "إنجي " قد تزوجت " أبن الجنابني " ، فما لايعرفه الجميع أن مجمل إستعارتنا عن تلك الأيام الذهبية لابد أن يخضع لكثير من الشك ، فالعين لم ولن ترتفع يوما عن الحاجب .