سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأربعاء، ديسمبر ٢٧، ٢٠٠٦

نظرة من بعيد على لبنان


نظرة من بعيد على لبنان
السجال السياسي الذي يحيا على أشلاء البارانويا

بتطور وتنامي حمى الجدل السياسي الحادث الآن في لبنان يحرق الجميع، حكومة ومعارضة، بعضاً من أساسيات النقاش الطبيعي والمنطقي حول مجموعة من المبادئ السياسية، ففيما يعلو خطاب الخطوة خطوة الإنفعالي لتجييش القوى وتحفيزها نحو الصدام الأخير والمتوقع، يجري الحديث وأحيانا بدم بارد عن مجموعة من التوافقات التي يتوقعها طرف من الآخر وكأنها دين البعض في رقبة البعض الآخر. مثلاً هناك تلك المئات من الألوف المحتشدة بلا غطاء سياسي مرن يسمح لمحركيها بالمناورة إلا فيما إرتضته سقفاً نهائياً لمطالبها متمثلاً في إسقاط حكومة السيد السنيورة، فيما يتحدث القادة عن ضرورات عدم الصدام، ولنسأل أنفسنا ماذا قدموا من خطط المناورة السياسية التي تسمح لهذه الألوف المتشنجة بالعودة إلى منازلها عند لحظة توافقية مفترضة في التفاوض السياسي؟ لا شيء لقد أطلقو العفريت ولا يملكون أي كلمة سر لإعادته إلى قمقمه، لأنهم ببساطة اعتمدوا التجييش التوتاليتاري الذي يؤمن بعصا الراعي القادرة على لم القطيع وصرفه لمناسبة ولغير مناسبة، فما هو الغطاء السياسي الذي سيمنع تلك الجماهير من أن تحوّل عرسها الديموقراطي الاستعراضي إلى حمام دم ساخن في لحظة إنغلاق الأفق السياسي البديل لسقف المطالب الواسع؟ لا شيء. سيتحوّل الجاني الدافع بجيوشه إلى ساحة رياض الصلح إلى ضحية وشهيد كما ترجموا ذلك في صدامات الشياح؟ ولن يسأل أحد قوى المعارضة عمّا قدمته عملياً لتفادي هذا الصدام المرشح للتصاعد. الإخوة في المعارضة اللبنانية قادرون بذلك على إستلاب مجموعة من الاستعارات من خصومهم لقلبها في مرآة البارانويا وجعلها جزءاً من أسلحتهم، الاحتكام إلى الشارع كما ترجمته في نسختها الأولى إنتفاضة الرابع عشر من آذار بكل معانيها التلقائية ها هي تتساوي مع آلية الزعيم الروحي وإشاراته بنقطة الصفر لتحرك جموعه: الإستقلال من الوصاية السورية ـ عفواً الاحتلال السوري ـ يتحول إلى الإستقلال من حكومة السنيورة، الحديث عن الديموقراطية ـ وياله من حديث مغدور في حسابات المعارضة التشنجية ـ يتحول إلى الحديث عن توافقية على مقاس الرئيس برّي وحلفاؤه، ويسعنا هنا العودة قليلاً إلى نقطة البدء، أين كان التوافق على صيغة الرئيس بري عندما أوكل حزب الله نفسه نيابة عن كل لبنان في حربه الأخيرة؟ ألا يستحق وطن بحجم لبنان توافقاً ولو ضمنيا على حرب ضروس يقودها فصيل محدد نيابياً بفصيل داخل فصائل المعارضة؟ أعتقد أن حديث التوافق هنا أولى بالرئيس السنيورة المخوَّن. ثم هذا البكاء على حليب الديموقراطية المسفوح تحت أقدام فاشية، ألم تأتِ حكومة السنيورة بإنتخابات ديموقراطية لا يستطيع أي من خصومها التشكيك في نزاهتها؟ فأين كانت تلك الجيوش في لحظة الانتخاب اليس وضعها المأزوم بالموالاة الفجّة لسوريا ورجالها هو ما أطاح بها من أغلبية إلى أقلية؟ ثم في مسلسل البكاء على الديموقراطية أليس أولى بلبنان قليلاً من البكاء على قمع حكومة السنيورة كما تفعل القوى الدولية بحكومة حماس المنتخبة ديموقراطياً وهي حليف حزب الله في المقاومة؟ أم أن البكاء على انقلاب الديموقراطية في فلسطين حلال وفي لبنان حرام؟ الديموقراطية هنا في خطاب المعارضة أقرب إلى مطية إبتزازية صالحة فقط للإستخدام البراغماتي، ربما تصلح في مقام ومقال آخر، كما لدينا في مصر مثلاً، والتي لا يستطيع أحد التشكيك في لا ديموقراطية حدث الانتخابات الأخيرة، ومن ثم فثوب المعارضة منطقي حتى لحركة كالأخوان المسلمين الذين لايؤمنون بالديموقراطية أساساً فيما هم ضحاياها الأوائل، لذا لايبدو مستغرباً في هذا السياق ما قاله محمد حبيب، النائب الأول لمرشد الإخوان المسلمين في مصر في حواره مع جريدة "الأخبار" اللبنانية، من حديث تخويني طال مجموعة 14 آذار خالطا عن عمد ـ كعادة فصيله البراغماتية ـ بين حسابات العداء لأميركا ومن أسماهم بالمتحالفين مع أميركا في لبنان، ولم ينسَ في غمرة حديثه التخويني أن يسقط في تناقض تسمية حلفائه في لبنان ممثلين في الجماعة الإسلامية اللبنانية، أحد فصائل السنة الذين تركوا الساحة للتحالف مع كتلة المستقبل السنية، وكأنه يحرض سنّته (الجماعة الإسلامية) على نقض تحالفاتها مع كتلة المستقبل، والكلام هنا خطير حين تمتد أصابع التحالفات الإقليمية لتلعب كعادة الإخوان في دول بعيدة كل البعد عن ملاعب ألعابهم المفتوحة. هكذا بضربة إخوانية واحدة يقوض التحالف السني في لبنان ويعلن تحالفه غير المشروط مع قوى حزب الله وأي عدو لأميركا وحلفائها في المنطقة، إنها الكوميديا السوداء التي تجعل من الإخوان مكفري المذهب الشيعي حلفاءً له بين لحظة وأخرى، وهذه الخلطة من التحالفات التشنجية على أساس عدو عدوي هو الصديق، هي التي تجعل لبنان ساحة فعلية لأياد طويلة عابثة كالأخطبوط تتلوى كيفما تشاء لتصل فقط إلى أهدافها. سوريا وحلفاؤها في لبنان يرهنون وطناً بأكمله كساحة لتفاوض حادث لا محالة مع أميركا والغرب المستعمر، وايران البعيدة هي الأخرى تبحث عن أرض مواجهة بعيدة مع أميركا، والفزاعة الإسرائيلية بدغدغة المشاعر الوطنية تتحوّل إلى وسيلة إبتزاز رخيص. هكذا ينسى حزب الله في جبروت تحولاته كيف تحدث أمينه العام جهارا بعدم تحويل نصره إلى سلاح ضد خصومه، ونسي السيد حسن موافقاته على أسس تفاوض السيد السنيورة حين أشتد الحصار الإسرائيلي بعد إختبائه خلف عباءة تمثيل السيد نبيه بري مراراً وتكراراً، وها هو يعود منتفضاً مخوِّناً كل من شارك في الخروج من أزمة الحرب الأخيرة، ها هو سلاح المقاومة المخبأ بعناية يدور حول نفسه ليقتل رمزيا من حماه، أنا شخصياً صدقت كالعادة السيد حسن نصرالله وتعهداته، وأنا شخصياً ها أنا نادم كل الندم على ذلك التورط العاطفي مع معركة في المخيّلة كنت أتمنى أن ننتصر فيها على خصومنا الحقيقيين، ها هو السلاح نفسه والساحة نفسها تحتشد لتعيد لبنان إلى نقطة الصفر الوطني، فلا شيء يفوق في مذلته أن تكون فرداً في معركة رمزية يجري ابتزال دمك المسال فيها تحت كرسي وعباءة الشيخ الإمام، حنانيك أبا الهادي ألا يستحق الوطن الذي تعبث بأشلائه الآن في قصعة النصر أن يترجل؟ ألا يستحق لبنان بعضاً من التواضع الكربلائي؟ ألا يستحق هذا الوطن يداً ممدودة بالحوار دون أن تخفي اليد المختبئة خلف الظهر خنجراً مشرعا للذبح؟ وأخيراً ألا يستحق هذا الوطن الصغير أن يهنأ مواطنوه ليلاً بنوم خالٍ من الكوابيس؟

بروس لي الحارة الذي يستعد لقتلنا



بروس لي الحارة الذي يستعد لقتلنامنذ سبعة عشر عاماً سقطت الأذن المقطوعة فحل صمت مريب

كان أيمن قد سبقنا بعام الى المدرسة الثانوية، ترافق ذلك مع نمو الشارب الخفيف والمحاولات الدؤوب لاستنبات اللحى باستعارة ماكينات حلاقة الآباء. كان أيمن أفقرنا، ولا يعني الفقر في تلك الأيام من شتاء العام 1989، معياراً نسبياً للأشخاص، كان أيمن يحتل تلك الدرجة من الفقر التي لا تسمح له بالتباهي الطويل بملابس العيد، كان أبوه خضرياً مطروداً من نعيم آبائنا المتمرغين في تراب الميري الحكومي والذي يسمح معاشه المتوقع في أيام كانت كلمة حكومة لها شنّة ورنّة ببعض من المزايا التي لا تتوافر للأُجرية من أمثال أبو أمين، فيما امتاز أيمن عن كل أبناء جيله بقدرته على تطوير إدمانه المخيف لمشاهدة أفلام بروس لي وجاكي شان الى إدمان من نوع آخر فبعد أن اجتذبته جماعة السنية ـ هكذا كنا نطلق على رواد زوايا الجماعات الإسلامية في مساجد حينا التي تضاعفت فجأة ـ اختفى أيمن إجازة الصيف بكامله وعرفنا من بعض صيّع المنطقة انهم يشاهدونه مع مجموعة من الشباب في حديقة ميدان المطرية يرتدون "الترايننغ سوت" ويتدربون على رياضة جديدة اسمها الكونغ فو، بالطبع كان اسمها الصيني أكثر جاذبية من رياضة الكاراتية التي جذبت بعض أبناء جيلنا وبقي تهذيبها الشديد كرياضة والذي تتطلب احتراماً للقواعد والخصوم منفراً لأحلامنا كمراهقين يريدون أن يطيروا بأرجلهم وأيديهم لينطحوا السماء ـ كنت شخصياً قد مارست الكاراتيه لصيف كامل ومللت مصطلحات المواشي غيري والكاته وتهذيب مدربي ـ لذا بدت الكلمة الصينية والملابس السوداء والعصابات على الوجوه واستخدام العصا والفرامانش ـ خشبية غليظة موصولة بجنزير حديدي وتطوح بها اليد في وجوه الأعداء ـ بالاضافة الى غواية تقليد النجوم الطائرة في فضاء الأفيش، بدت كلها كأنها طقس تعميدي للمراهقة ندخل منه عالم الفتوة، لا تتطلب تلك الرياضة جسداً مفتولاً لا بل ربما تعد النحافة إمتيازاً فيها. لذا بقي أيمن بجلبابه الباكستاني وشورته الشرعي الطويل وشنطة ظهره التي تحمل الفارامانش أملا لكل المرتحلين من مدرستنا الاعدادية الى مدرسة ابن خلدون الثانوية. كان أيمن قد سبقنا الى هناك بفرامانشه وكندورته الصينية وعصابة الرأس لكننا حين وصلنا الى المدرسة لم نلتق أيمن في أول أيام الدراسة، كانت أمه قد جاءت بجلبابها الأسود تبكي لمدير المدرسة القاسي الذي استقبلنا بكرباج سوداني في أول الصباحات، جاءت تبكيه ولدها الذي جاءت المباحث ليلاً لتأخذه قبل صلاة الفجر بقليل، في تلك الأيام كنا نلاحظ نحن طلبة الصف الأول الثانوي عربة البوكس الرابضة منذ ا ليوم الأول أمام المدرسة بعد أحداث سمعنا عنها قد جرت في حارة آدم، المتفرعة من شارع صعب صالح القريب، ومفادها أن الجماعة السنية أعلنت أحكام الطوارئ بحي عين شمس وطبقت الشريعة الإسلامية بشارع إبراهيم عبد الرازق، ما سمعناه عن تطبيق الشريعة كان دلق بعض ماء النار على وجوه بعض غير المحجبات، وحرق بعض المحلات التي تبيع البيرة، وسرقة بعض محلات الذهب التي يملكها النصارى، وبعد انفرادهم بالحي لشهرين اقتحمت قوات الأمن مربع الشوارع المحررة إسلامياً بكوماندور قوات الأمن وحاصرت مسجد آدم الشهير ليومين وأوقعت كثيرين بين قتلى وجرحى ومقبوض عليهم، ويقال إن مقاومة الأخوة امتدت من بيت لبيت بالسلاح الناري والأبيض وأن قوات الأمن فوجئت بالقدرات غير العادية في الاشتباكات اليدوية مع شباب الجماعة. إذ كانت كلمة الكونغ فو هي السر، فعبر سنوات طويلة ساهمت الجماعة الإسلامية تحديداً في انتشار تلك اللعبة بين أعضائها. كان مشهد الحدائق التي تتسع للعشرات يمارسون اللعبة أحد مشاهد أواخر الثمانينات التقليدية، لدرجة أن الدولة بعد أزمة جامع آدم وغيرها من المواقع التي استبسل فيها الإسلاميون ألغت ممارسة اللعبة في مراكز الشباب والأندية، بحجة خطورة اللعبة، مما دفع الجماعات لممارستها سراً في الحدائق. في إحدى هذه الحدائق تم اعتقال أيمن في سياق الحملة التمشيطية بعد الأحداث. كان أيمن قد أصبح مدرباً وبطلاً للجمهورية في اللعبة المحظورة عندما أفرجوا عنه بعد ذلك بشهور. اكتسبت لحيته زخماً إضافياً وهجرت وجهه الإبتسامة الى الأبد، أصبحت حصة الألعاب عبئاً أسبوعياً على الجميع، بعد أن اقتسم أيمن ورفاقه الجدد أرضية الملعب الوحيد بقوة اليد ليمارسوا استعراضاتهم، ولنتخيل مدرسة بالكامل تقف مشدوهة على قدم حين يحتلون بمنتهى الصلف بجلاليبهم البيضاء ولحاهم المسدلة نصف أرضية الملعب حتى في فترة الفسحة المدرسية لإحماء أجسادهم وهم يصرخون صرخات القتال، معظمهم كانوا من المتفوقين دراسياً لذا لم يكن غريباً أن يدخلوا جميعاً القسم العلمي، وأتت لحظة الحسم كما تخيلناها لتفريغ تلك الطاقة المكبوتة عندما نشب شجار تافه بين طالبين من سنتنا الدراسية لنرى بأم أعيننا كيف عاقبوا الشاب مخلص، المسيحي البلطجي، عندما سب الدين لأحد الطلاب فيما هو ينزع ملابسه إستعداداً للشجار، اندفع أيمن مخرجاً مع صحبته الفارامانش في ضجيج نحو سبعين طالباً يتشاجرون في فريقين، وأطاحوا بالفريقين يميناً وشمالاً حتى وصلوا الى مخلص الذي سب الدين، أحاطوا به بما يشبه الدائرة وقبل أن يرفع يده بحزام الوسط الذي استله سلاحاً ضربه أيمن بسيف قصير أخرجه من خلف ظهره، فتدحرجت أذنه المقطوعة على الأرض فيما هو يدور حول نفسه بنافورة الدماء التي إنفجرت لتطرطش أرضية الملعب الرملية قبل أن يسقط ملوياً على عنقه ممرغاً وجهه صارخاً. انفضت الساحة فجأة واندفع الأساتذة الذين كثيراً ما استمتعوا بمشاهدة تلك ا لمعارك من خلف أسوار المباني الحديدية متجمهرين حول الضحية، ومع جرس إنتهاء الفسحة الذي دب قاطعاً الصراخ والصمت الذي تلاه، لم نر كيف اختفى أيمن ورفاقه فجأة من المدرسة، كيف خرجوا؟ لا يعلم أحد حتى الآن كيف استطاعوا الخروج من المدرسة، لينقطعوا أياماً وتفشل إدارة المدرسة في الحصول على شاهد واحد لإغلاق القضية التي فتحت مع وصول عربة الاسعاف وبوكس الشرطة. لم يجرؤ طالب مع دموية الانتقام على الشهادة ووصلت الرسالة كاملة، للطلبة والمدرسين والمسيحيين خصوصاً، تحاشينا بعدها حتى الجهر باسم أيمن ونسيناه هو وعصابته. لكنه وبعد أعوام أطل بوجهه علينا في حرم الجامعة، كنا قد عرفنا باعتقاله للمرة الثانية وأنتهينا من ملفه الشائك قبل أن نراه خطيباً مفوها على معرض للاسلاميين في جامعة عين شمس. كانت الجامعة تمور في تلك الفترة بتداعيات أحداث الحرم الإبراهيمي، وكنا طلاباً اشتراكيين وناصريين قد أقمنا معارض وتظاهرات حاشدة لمدة يومين قبل أن نشاهد أغرب المشاهد التاريخية في جامعة عين شمس، حيث فتحت الأبواب على مصراعيها ليدخل مئات بل ألوف الطلبة الذين بدوا من طلعتهم أنهم غرباء على الجامعة، دخلوا صفوفاً تصحبهم مئات المحجبات والمخمرات وعربة نقل تحمل إكسسوار مسرح وسماعات كبيرة وأجهزة صوت، لينتصب مسرح كبير وتعلق يافطات الجماعة الإسلامية عليه ويبدأ مؤتمر لعناصرهم تحت إشراف قوات الأمن. ساعتها صعد أيمن وقد بدا بعلامة السجود علي جبهته زعيماً وفقاً لدرجة سوادها، صعد خطيباً افتتاحياً للمؤتمر، وإنفض فجأة جمهورنا القليل الذي كافحنا لجمعه لمدة يومين لينضم الى الجيوش المحتشدة صفوفاً والتي تطوف الجامعة متشابكة الأيدي في هتاف موحد "إسلامية إسلامية" فيما يرجون الأرض بدبيب أقدامهم التي تحيل المشهد مع باقي إكسسواره من يافطات زرقاء مطبوع عليها كلمة "أعدوا" الى ما يشبه عرضاً لميليشيا فاشية. استفقنا من الصدمة فقط عندما انفصل عن الحشد أربعة صفوف واقتربوا من معرض لوحاتنا الورقية شاهرين عصياً لا نعلم مصدرها وبدأوا في تدمير المعرض وتمزيقه وضرب الواقفين أمامه. تفرقنا تحت حمى العصي فيما الحرس الجامعي (قوات الأمن) يشاهد بتشفٍّ ما يحدث، تفرقنا بعدما أصيب من أصيب وهرب من هرب وتوجهنا الى قيادات الحرس الذين شاهدوا الحدث فواجهتنا تلك الإبتسامات، وضحت تماماً المؤامرة التي تم الترتيب لها بين الأمن والجماعات لاختطاف الحدث والحشد لصالح الجماعات، ومن ثم تفريغه من أي تراكم قد تخلقه القوى السياسية الأخرى. فبعد مرور ساعة واحدة خرجت الحشود من نفس الباب بمسرحها وسماعاتها وألوفها المجيشة وانفض الموقف من تحت أقدامنا، لم أر أيمن من يومها، لكني رأيت أمثاله في كل الأماكن التي حللت بها، وصار أيمن ورفاقه يحيطون بي في العمل والمترو والمطعم وإشارة المرور وعلى شاشة التلفزيون وعلى سلم النقابة، لذا لم يدهشني ذلك المشهد الذي أفزع المصريين منذ أيام عندما احتشد ملثمون في استعراض عسكري لفنون الكونغ فو أمام مكتب رئيس جامعة الأزهر، وهم معصوبو الرؤوس بكلمة "صامدون"، لم يدهشني ذلك على الإطلاق وأعلم تماماً أن اللحظة قادمة لا ريب فيها، عندها سيسدون الشوارع في لحظة الصفر الحقيقية مضرمين النار في اليابس والأخضر، ولن يكونوا ملثمين هذه المرة، ستكون عيونهم مفتوحة باتساع لإقتناص ثمرة نضجت وحان قطافها. ما حدث في جامعة الأزهر هو البداية لعصر ميليشيا انتظرت كثيراً، وصمدت أكثر، وجاء زمنها لتحتل الشوارع.

الإخوان والأزهر .... أيهما المبتدأ ... أيهما الخبر


الهارموني بين باعة صكوك الغفران
هاني درويش


إنها جامعة الأزهر كالعادة ، ذلك الرصيد الإحتياطي التقليدي للظاهرة الإسلامية الجديدة في مصر ، ولايعني هذا الظهور الحشدي التجيشي لكوماندوز طلاب الأخوان في ساحتها أي إحتمال لصدام متوقع بين الجماعة الشهيرة ومؤسسة الدين الرسمية للنظام المصري ، فليهدأ الجميع ويخففوا من سقف تأويلاتهم لذلك المشهد الذي أضرم النار لأسابيع في الشارع السياسي المصري، فلن يجرؤ أحد علي المطالبة بحل جذري يطال بالتغيير مؤسسة الأزهر وجامعته التي تسكن كقلعة معزولة خارج المجتمع وحضارته منذ القرون الوسطي ، ولن يجرؤ آخرون في حمي التفسيرات علي وضع علاقة جماعة الأخوان بالأزهر موضع تساؤل جاد ، هناك جريمة تاريخية يعمي عنها المجتمع بملئ إرادته وحملت الكاميرا البريئة أبناء خطيئةتلك الجريمة إلي مقدمة الحدث الأول دون مبرر، فالمجتمع محموم بشكل كاف في صراع مزاد الدين بين الدولة ومعارضتها الوحيدة أي جماعة الأخوان ، وأي صوت عاقل لا مكان له الآن ، المزاد الديني مفتوح في مجتمع فقد كل مبررات حياته وما عاد له في ميزان دنياه إلا حديث الآخرة ، حكوما ونظاما ومعرضا وشارعا ، لاصوت يعلو فوق الأصوات الناطقة بإسم الله .
ولإستعادة المشهد من بداياته بحثا عن فك الإرتباط بين عناصره المتداخلة لابد من حديث التاريخ الموازي للجماعة والجامعة ، وهي عودة لبذور الفتح الناصري الخرب لوطن ضاع جريرة عقم رؤي قيادته العابثة ، في البداية كان الأزهر الذي بقي فيما قبل التشويه الناصري ومنذ بدايات القرن الماضي حصنا حصينا لثلاثي ما قبل الحداثة المثالي ، حصنا لترويكا الفقر والجهل والمرض ، فبنية التعليم الديني الأزهري الحجرية أصابها ما أصاب الفكر والفقه الإسلامي من جمود بدأ مع عصور الإسلام الوسطي ، وتحولت الإنتلجانسيا الوحيدة التي واجهت الحملة الفرنسية 1798 إلي عبأ مزدوجا علي الحداثة المتأخرة في عصر محمد علي ، حتي لو وضعنا في صدارة المشهد البروز الناصع للشيخ رفاعة رافع الطهطاوي بزخائر رحلته الباريسية ، ثم إجتهادات الشيخ الإمام محمد عبده مع تفتح بدايات قرن الإستعمار ومفاهيم الأمة والوطن ، وحتي مع ذلك ظل الأزهر بعالم تعليمه الديني مشهدا ثابتا لا تصلح معه رتوش الحداثة للشيخين الجليلين ، الأزهر يبقي وسيبقي تلك المؤسسة التي قدر لها لزمن طويل جدا أن تلعب دور دولة الظل لدولة لا ظل لها ، أو بيتعبير أدق الظل القوي للدولة الشبح ، بما في ذلك المصطلح من تناقض ، كيف يلعب الظل القوي دورا لجسد هو بالأساس شبح؟ . الأزهر هو المعني الحرفي لركون المصري المسلم منذ قرون علي دور ومكانة لا يحددها عرض زائل مثل السلطة ، لاتحددها قيمة أخري حتي لو كانت العلم فهل من علم أعلي من العلم الإلهي ؟ لذا لايبدو مستغربا مشهد إفتتاح الجامعة الأهلية المصريةعام 1914 و التي كانت أولي دعائم ما يسمي بالتعليم المدني الحديث أن يقرأ القرآن في الإفتتاح وتأتي كلمة عالم الأزهر المندوب للحفل لتؤكد أن الجامعة الجديدة لن تدرس إلا ما هو متوافق مع الدين ، الأمر الذي دفع الرائد لطفي السيد أول عميد للجامعة الجديدة أن يعلن من الصف الأول صرخته التي سرعان ما سينساها التاريخ " لادين للجامعة ، ودين الجامعة هو العلم " ثم لتدخل الجامعة الجديدة صراعاتها العنيفة مع الأزهر لسنوات طوال ، يحدث هذا في أكثر لحظات تاريخ مصر الحديث ليبرالية ، عشرينيات وثلاثينيات مصر الذهبية ، فما بالنا ونحن الآن في عصور الردة المملوكية المتأخرة ، وليستمر التناحر عقودا عديدة تنزع فيه الجامعة المدنية المدينية لتأكيد إستقلالها العلمي فيما ينفرد الأزهر بدوره النظامي المتمثل في لعب أدوار ماكينة الدراي كلين الدينبة لكل الأنظمة السياسية ، عاش الملك ، مات الملك ، جاء الضباط ملوكا جددا لايتغير شيئ، طالما المقامات محفوظة ، والجبب والقفاطين تمتد من خلف أسوار الأزهر لتصل إلي أقصي القري والجوع حاملا كلمة الله في أرضه ، بقت المدينة وجامعتها لسنوات مجال أحلام أبناءها ، وظل الفخر القروي المعمم لذوي الكولة ، المجتمع الزراعي ظل ولا يزال يرزخ تحت دعائم القوي الروحية لحملة كتاب الله ، حتي عندما دعي ناصر ببرجماتية مخابراتية إلي تحويل الأزهر لجامعة تدرس العلوم المدنية جنبا إلي جنب مع العلوم الدينية ، إستطاع الأزهر أن يتكيف سريعا مع حملة الضباط ، وبقي ما لقيصر لقيصر وما لله لله، حاول ناصر مع أفكاره القومية والعالمثالثية التي جعلت من بلاد العرب وإفريقيا أرضا لرسالته الطموحة بعالم الأزهر المهندس والطبيب والكيميائي أن يستغل رافعة الأزهر الدينية لبسط سيطرته علي محيطه الإقليمي ، وتمطع الأزهر المرن ليتقبل المهمة المزدوجة والشيزوفرينية بإدخال العلوم الحديثة علي قائمة علومه التي لم يسطر بها قلم جديد منذ قرون ، الأزهر بالآف معاهده ومدارسه المنتشرة في كل مسام القطر كان أهلا لمعركة الحداثة المنقوصة ، تعليم تلقيني كهنوتي يستوعب أفقر فقراء الريف وهامش المدينة ويمتص داخل أعداده الغفيرة تلك الرسالة السياسية المزدوجة ، بقت المدينة حتي مع سياسات مجانية التعليم الجامعي الكاذبة مسرحا لنخبة النخبة ، وتؤكد علي ذلك الدراسات المتعمقة للريف المصري الناصري ، فحركة تنمية المدينة والصناعة أنتجت إفقارا متعمدا للريف ، بقي الريف الزراعي المتجمد بصفاته الإقطاعية إبنا للمجال الحيوي للتعليم الأزهري ، ومن بين أسرة ريفية تضم خمسة إلي ستة ابناء في المتوسط تعلم واحد فقط تعليما مدينيا والباقي إما غير متعلمين او متعلمين تعليما متوسطا أزهريا ، هذا عن فترة الإزدهار الناصري والتي تزامنت مع تصدير عدد لابأس به من حملة الشيزوفرينيا التعليمية الأزهرية إلي كافة أصقاع الأرض ، ويحكي عدد لابأس به من الجزائريين مثلا عن مدرسي اللغة العربية المصريين الأزهريين فيما يشبه الكابوس التعليمي والنفسي ، أما نتائج الخلطة الناصرية لتعليم الأزهر فحدث ولا حرج ، لاالطبيب طبيب ، ولا المهندس مهندس ، ولا اللغوي لغوي ، وظلت المواد الدينية محل نجاح ورسوب فيما المواد العلمية غير معول عليها في النجاح أو الرسوب ، لذا كان من المدهش أن تقبل الجامعات المدنية الكبري كالطب والهندسة حدا أدني لا يتقل عن 90%فيما الكليات الأزهرية الموازية تقبل من حد أقصي 60%، فيتخرج طبيبا من إستطاع حفظ الثلاثون جزء من القرآن حتي لو رسب في مادة الإحياء ، وتلخيصا حاول ناصر إمساك العصا من المنتصف فإنكسرت، بل وعاد جزء كبير من هذه ألوية الفتوح الأزهرية الناصرية بفقه الصحراء وتأويلات عنيفة للدين عمقت من إنقطاع الإجتهاد الديني الأزهري وأعادته مئات أخري إلي الوراء ، ولا أكثر دلالة علي ذلك من حكاية أحد اصدقائي الأزهريين من محافظة المنصورة والذي كان معيدا بقسم الكيمياء بكلية العلوم جامعة الأزهر ، كان موهوبا لدرجة أنه إختار تخصص الكيمياء الذرية لدراساته العليا وبعيدا عن كون موضوع رسالته لم يجرؤ أستاذ واحد بالجامعة في مناقشته فيها – حيث لازالوا يدرسون مناهج الكيمياء العامة للعام 1965 – إلا أن المفارقة الكبري كانت يوم مناقشته حيث إنقسمت عائلته إلي قسمين في قاعات المناقشة بينه وبين إبن عمه في كلية الشريعة والذي كان عنوان رسالته للدكتوراة " عالم الجن بين القرآن والسنة " !!
جماعة الإخوان المسلمون في ظهورها نهاية الثلاثينيات لم تمارس أيا من الصدام مع الأزهر ، مثل الأزهر بتعليمه خط إمدادها الخلفي وعندما حدث الصدام الشهير مع ناصر وفرت عباءة الأزهر لعدد كبير منهم هجرة مثمنة إلي دول خليجية عديدة ، رحبت بهم وأثقلت من ميزان حساباتهم المالية الجارية ، ويعود الفضل لدول بعينها في عودة الراسمال المالي للإخوان عودة مظفرة مع التحول الساداتي ، عاد الإخوان بأموالهم النفطية ليحتلوا حيزا في بنية المؤسسات التعليمية الرسمية والأزهرية ، وبقي الطرفان ( الإخوان والأزهر ) يحترمان تقسيم العمل الإسلامي ، عداء وردي أزهري بلا أنياب للأخوان ، وسمعة فقهاء السلطان التي أطلقها الإخوان علي الأزهر لم تعني يوما تضارب المصالح ، فالحركة الإسلامية مهما كان شططها لاتستطيع إغفال الدور الجوهري الذي يلعبه الأزهر كقيمة روحية عامة لدي المصريين ، والأزهر مهما كان إستربتيزه السياسي مع النظام لايستطيع أن يكفر أخوة القضية ، الأزهر صالح لبيانات التنديد بعد مروق طائفة إرهابية بعملية ما ، لكنه لايستطيع مثلا أن يشكك ولو للحظة في شعار دعاة لا قضاة الذي ترفعه الجماعة ، ويلاحظ هذا التواتر الكلاسيكي في متتالية المواقف بين الأزهر والإخوان في قضايا مصيرية فمثلا عندما رفعت أصوات تتحدث عن علمانية الدولة في مصر عزف الكونشيرتو الأخواني الأزهري بتناغم فريد ، وحين تصل الصدامات البالونية الشهيرة والموسمية حول قضية مجتمعية ما نلاحظ هذه الهارمونية في الآداء حتي لو أصابها أحيانا بعض النشاز، في الخمسة عشر سنة الأخيرة وفي كل القضايا التي توالت علي جسد الثقافة المصرية رقابيا ، كان مشعلوا الحرائق دائما من التمثيل النيابي للإخوان بينما وقودها الرئيسي كان جمهور طلاب جامعة الأزهر ، من نصر حامد أبوزيد إلي أزمة وليمة لأعشاب البحر إلي أزمة الروايات الثلاثة إلي اخيرا أزمة تصريحات فاروق حسني عن الحجاب ، بل إن لجنة مثل جبهة علماء الأزهر الأشد إظلاما حتي من الأخوان تلعب الدور الحيوي في تقسيم العمل داخل جامعة الأزهر ، فهي اللجنة الممثلة بشكل حقيقي للمناخ الأكثر ظلمة فيما قمة الجامعة يبدو خطابها السياسي ممثلا في عميد الجامعة وشيخ الأزهر أقرب للواجهة الحكومية ، وأحيانا مايختلط تمثيل المناخ العنيف بتمثيل الدراي كلين السياسي كما في حالة العميد السابق ورئيس اللجنة الدينية بمجلس الشعب د. أحمد عمر هاشم أحد أكثر الشخصيات الدالة علي فصام الأزهر السياسي العقائدي وهو المعروف بسافح دماء المفكر الكبير نصر حامد أبو زيد، ويبدو الخيط السرمدي الواصل بين الجماعة والجامعة ممثلا أكثر ما يكون بحالة إحتلال الإخوان للنقابات المهنية التقنية منذ نهاية الثمانينات حيث لعب خريجي الازهر من كليات الطب والهندسة دورا في الفوز الكبير للجماعة بهذه المعاقل الكبري حتي لوبقت كريمة التمثيل النقابي ممثلة في قيادات الجماعة من الكليات المدنية ، فالتعليم المصري الحكومي المدني يتريف منذ أكثر من عقد ومع التوسع المجاني الرخيص في إنشاء جامعات إفليمية ركيكة المستوي العلمي ومع ضعف الحياة السياسية الجامعية وسيطرة الأمن علي الجامعات تحولت الجامعات المدنية الحكومية إلي صبغة جامعة الأزهر ، وإن بقت تركيبة طلاب جامعة الأزهر هي الأكثر تمثيلا للعنف الإخواني ، ربما بحكم الإمتياز الوراثي كمجاهدين وظيفيين بإسم الدين ، إلا أنهم يظلون جنودا للمشاة تحدث بينهم أكبر الخسائر ، لذا لن يبكي عليهم كثيرون بعد غضبة الدولة الإعتقالية ، بل وسيخرج عميد جامعة الأزهر ليصفهم بالخراف الضالة المارقة ، وسيدافع عنهم الإخوان ببرود الجنرال عندما يخطئ جندي مراسلته ، لكننا لن نسمع صوتا واحدا يربط بين عنف جنود المشاة وحكمة البجنرال الإخواني حتي لاتتقاطع الخطوط وينفضح تقسيم العمل الهادئ لصكوك غفران ينتظرها بعضا وسبعون مليون من المواطنين .

الأحد، ديسمبر ٠٣، ٢٠٠٦

حكمة سبعة آلاف عام... كل شيء هادئ على الجبهة المصرية

ثلاثة مشاهد متتالية تداخلت فيها الظنون والتأويلات لما يمكن تسميته بتحول العلامات الدالة على مستقبل مصر السياسي. ثلاثة مشاهد رئاسية تعرضت لتأويل مفرط من النخب الساسية في ما يمكن أن تعنيه هذه المشاهد في تواتر زمنها وتتابع إيقاعها ومنبت حدثها. فغير بعيد عن إدراك الجميع ضبابية ما يحدث خلف الكواليس المعتمة للقصر الرئاسي فيما يتعلق بسيناريوهات المرحلة المقبلة، مصر في ديمومة متصلة من الصراخ والدويّ تحت شائعة التوريث فيما يزيد عن العام. إذا ما أطل فجأة السيد جمال مبارك على التلفزيون علت نسبة التوريث المباشر في لوتارية الوطن. يفرد للمشهد مدبجو المقالات كثيراً من التحليل، ويتصاعد في المناخ سعار المعارضة التي جعلت من النضال ضد التوريث سقفاً غير مرئي لبرنامجها السياسي، دون أن تدري تلك المعارضة الخجولة الكيف والكم أن ذلك السقف الذي إرتضته مرمى لنيرانها قابل هو الآخر للتضييق أو التوسيع وفقا لردة فعلها المحكوم علّها مسبقا بالتشنج. وكأن هناك ثمة حكمة مستترة تجعل من قضية التوريث قنبلة دخان يدفع بها النظام في وجه معارضيه شيئاً فشيئاً كلما ضاق مناخ الأزمة عن إكتشاف ملامح للمستقبل. المعارضون في ذلك أقرب لكورس صاخب يضج بالصراخ أمام جمهور أصم وأبكم يمثله الشعب المصري الغافل عن كل شيء عدا معجزته اليومية المتمثلة في البقاء حياً. ومع تنامي التأويلات لكل شاردة أو واردة تخرج من تحركات الترويكا الرئاسية، يبقي الرئيس مبارك كعادته، ووفقا لتلقائية أدائه، أكبر الموضوعات القابلة للتحليل في مناخ ندرة الحدث القابل للتأويل.
يتحدث الجميع سراً عن صراع فوقي تحتي تمور به الرئاسة المصرية، صراع يمثل فيه الرئيس بمجموعة عمله القديمة والتقليدية جبهة مقاومة لسيناريوهات الأبن ومن خلفه الأم للتوريث، فيما تمتد خلف القطب الأسري الثاني مجموعة لجنة السياسات الشهيرة برجال السيد جمال مبارك، ويختفي من قلب الصراع عامل مستتر تقديره المؤسسة العسكرية التي تدعم بشكل أو بآخر بقاء الحال في يد السيد الرئيس الذي، وإن إكتسب بعداً مدنياً بطول فترة الحكم، إلا أنه يمثل بقايا اللعبة التقليدية لعلاقة المؤسسة الهامة بملف الحكم منذ ثورة يوليو التي أدخلت العسكر لأول مرة لعبة السياسة. البعض يتحدث عن أن تفجر أصوات المعارضة بجعير لا "للتوريث" هو ابن طبيعي لدعم قطاع لابأس به من المؤسسة العسكرية لرفض السيناريو بالتوريث المباشر، بل إن البعض يرى في هجمة الصحف المستقلة التي بنت جمهورها على خلفية حدث التوريث فعلاً إرتدادياً شنته وسمحت به المؤسسة العسكرية وربما تشرف علّه وذلك عبر تسريب الأخبار وتنظيم الحملات ضد مشروع السيد جمال مبارك. ولم يخف الرئيس مبارك نفسه في أكثر من مناسبة دهشته من عبث تلك الإشاعة الخاصة بالتوريث. نفاها أكثر من مرة وبشكل علني ومباشر، ثم تعود الهوجة مع كل إزدياد في مجال حركة الأبن جمال مبارك داخل الحزب أو في مستوى تمثيله السياسي والذي كثيراً ما يتجاوز بروتوكولياً حجمه التنظيمي في الحزب الحاكم.
ولنعد إلى المشاهد الثلاثة الأخيرة والتي أعلت من حمّى التفسيرات. فقد سبقها جميعاً ولفترة طويلة إحتجاب للرئيس عن الظهور العام إلا في مناسبات قليلة، وهو ما أعطي إحساساً عاماً بإنسحابه التدريجي. غاب الرئيس عن فاعليات كثيرة عنونت لزمن بإسمه وبات ظهوره شحيحاً، وهو ما رفع سقف التكهنات بقرب فاعليات التوريث المباشر. ثم عاد خلال عشرة أيام وبعد جولة خارجية لامست أقطاب المعمورة في طولها وثقلها السياسي بزيارة موسكو وبكين. عاد للظهور في إفتتاح الدورة البرلمانية الجديدة لمجلس الشعب بكل حضوره الواثق. مظهره البادي الصحة وعنفوان كلمته الإفتتاحية ومضمونها الجديد جعلت الحديث الهامس عن التوريث من عدمه في خبر كان. قالها الرئيس واضحاً وبمضمون لم تفلح إستعاريته البسيطة في التغطية عن معناه الأهم، قالها: سأبقى قائداً للوطن طالما بقي في القلب نبض وفي الصدر نفس، وهي الجملة التي إستحقت تصفيقاً مدوياً وإستثنائياً جاوز الخمس دقائق وتبعتها مناشدات مسرحية من النواب بالتكرار، فيما وحد التصفيق لأول مرة بين نواب الحزب الوطني الحاكم وهامش غير قليل من جماعة الإخوان المسلمين.
التصفيق لم يكن بروتوكولياً كعادته ـ في العادة تستجلب كلمات الرئيس تصفيقاً محسوباً وهتافات تعبوية غالبا ما يواجهها الرئيس بتعليق طريف من خارج كلمته الرسمية ـ وهو الأمر الذي فسرته صحيفة "المصري اليوم" في صدر صفحتها الأولى بأنه تصفيق شامت في وجه سيناريو التوريث، وإستتبع ذلك طوفان من الأعمدة الصحافية المحللة لما بين الكلمات من معان، وهلل البعض لإنقشاع الضباب التوريثي أخيراً بنص واضح وصريح، وهو الأمر الذي دفع ميلشيات الصحافة المحسوبة على لجنة السياسات ممثلة في جريدة "روز اليوسف" اليومية إلي توجيه الإتهامات الصريحة للصحف المستقلة بسوء تأويل كلمات الرئيس. إلا أن الرئيس عاد بشكل مفاجئ في إطلالة تلفزيونية بإحدى زياراته غير المتوقعة مرتدياً حلة رياضية في أحد أماكن التدريب على رياضة الجودو، وهي الإطلالة التي اعتبرها البعض مشهداً جديداً ونشاطاً ذا معنى خاص بعد فترة الغياب الطويلة، ثم اتبعها بزيارة لمؤسسة الأهرام دعماً لقياداتها الرسمية المحسوبة عليه في إشارة لتعضيد أسامة سرايا رئيس تحريرها الأقرب إليه في قيادات الصحافة القومية الحالية، وهي الزيارة التي ربما تحسم حربا دائرة بين جناحه في المؤسسة وجناح محسوب على جمال مبارك يتنافسان على قيادة المؤسسة التي تمثل دعامة للنظام السياسي في مصر منذ ما يزيد على النصف قرن. لم تكن هناك مناسبة للزيارة قد اخترع لها طاقم الأهرام مناسبة مرور 130 عاماً على صدور العدد الأول للجريدة. وما ظهر من الزيارة التي تمت لمقر الجريدة بمدينة 6 أكتوبر يؤكد بارتجال معرضها، وتركيز الرئيس على مقابلة جيل معين وأشخاص يدينون بالولاء له، ان الزيارة كانت لتشجيع مجموعته لاأكثر، ثلاثة مشاهد متوقع لها التضاعف في الفترة القادمة لتأكيد دعائم ما قرأه الناس في كلمة الرئيس أمام البرلمان، ومحصلته في النهاية أنه مهما تضمخ المناخ بالشائعات فلا يزال الرئيس نفسه يتحكم بأكثر من 99% من أوراق اللعبة السياسية، وهي اللعبة التي ما زال هامشها ومتنها محدودي الخيال بسؤال افتراضي لا يمكن تجاوزه: من هو الرئيس القادم لمصر؟ سؤال أجل الرئيس حسمه بإحالته على الدفع البيولوجي، والذي يبدو أكثر السيناريوهات توقعا في ظل إنعدام المفاجآت عن مصر منذ سبعة آلاف عام.

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

تنحنح قليلاً ثم بدأ الكذب قائلاً:......


في مهنة الصحافة هناك مدخل أساسي للتعامل معها ، ألا وهو اعتماد ما يكتب ويقرأ علي أنه نص خيالي بامتياز. نعم بفضل ما تتركه المهنة من أثرها الوحيد (الكلمات) في اعتقاد القارئ من أن ما هو مقروء هو في مجاز "حدث ذات مرة" بمعنى أن كذا يحدث لكذا في مكان وزمان آخر، أو أن كذا قد حدث بالمواصفات التالية في أكثر الصيغ الصحافية خبرية وحيادية مع كامل الاحترام لتشكك الجميع في صفة الحياد الأخيرة. فحتى عند حدود الوصف لما هو واقعي ومنزه تلعب اللغة بصفتها وسيطا يحمّل وعي كاتبها دورا في صبغ الأحداث والمعلومات بشيء من الزيف، وإلا أصبحت البشرية جميعا مطالبة باستهلاك صحيفة واحدة تملك علم الصحافي: اليقين المقدس. إلا أن تكنيكات الكتابة الصحافية المتباينة بين الخبر والتقرير والتحقيق والتحليل وأخيرا الحوار والرأي، هي ما يحمي تلك المهنة من أحكام قيمية ربما تضع كل منتجها في مجاز الكذب المطلق. فالتباينات الدقيقة بين كل تلك التكنيكات تجعل للعمل الصحافي قيمته المضافة والصافية بين كل الفنون الكتابية. وبما أن الإبلاغ هو الوظيفة الأساسية التي يتحرك داخلها ذلك الخيال الكاذب الصادق، فإن وثائقية المادة المنقولة تبدو هي الشعرة التي تفرق بين الكذب والخيال. كلما جنحت المادة نحو الخيال البكر ازداد الشك في تلك المادة من حيث هي طريقة للابلاغ وتعامل معها المتلقي بخيال أرحب وربما اقترب الفن الكتابي من حدود الادب. أما إذا ما توثقت المادة بكثير من القرائن بدت أقرب الى إرهاب القارئ وقتل خياله ودفعه نحو الاستسلام العقلي الكسول. وبين هذا وذاك دائما ما يتأرجح الكاتب بين خيارات كلها صعبة ويكتنفها صراع إقدام وإحجام بلغة أهل علم النفس. وفيما يخصني كشخص ضل طريقه نحو الصحافة في لحظة لا تحتاج المهنة فيها الى من ضل الطريق، تظل معادلتي الشخصية أقرب ما تكون الى محاولة اكتشاف دائمة.لم أنجح في أي لحظة من إخفاء إندهاشي من كم البلاهة التي ترسبها تلك المهنة يوما تلو الآخر إذا ما فقدت قيمة الخيال، لأن الواقع من ناحيته ينحو بغرائبيته لتحطيم الفاصل الدقيق بين ما اصطلح على تسميته واقعا أو خيالا. ومن ثم لا يتبقى لمن يبحث عن سلوى حقيقية في تلك المهنة إلا أن يخلط كلما أمكن بعضا من الواقع الخيالي بكثير من الخيال الواقعي بنسب محددة تسمح لكل منا أن يخلق واقعه وخياله الخاص، وذلك مع كامل احترامي للقانون المهني الذي يحتم علينا غير ذلك. لكن فليأت واضعوه، وأتحداهم أن يصبروا على الواقع أو الخيال. من أكثر المهام الصحافية في اعتقادي استحالة في التموضع داخل معادلتك الشخصية للخيال والواقع هي مهمة الحوار الصحافي، والتي أدعو من الله ألا يبتلي بها عدو أو حبيب. فبحكم الموقع الجغرافي النفسي للمحاور والمحاور (وزع كما يتراءى لك الفتحة والكسرة)، تبدو العملية بمجملها إخصاء للخيال. فالمحاور، مهما تسنّى له من استعداد معلوماتي ومعرفة عميقة بشخصية من يحاوره، يبقى الأضعف في مواجهة كُتِب فيها للمحاوَر كامل المجد الزائف بأن لديه ثمة ما يحتاج الناس لمعرفته. ولأنك مجبول على محاورة من يمتهنون حرفة الكلام من أدباء ومفكرين، فلتستعد لماكينة الكلام التي لن تجد من يحاسبها وفقا للمثل المصري الشائع "الكلام ماعليهوش فلوس". يبدأ هذا الخلل في موازين القوى في اللحظة التي يرفع فيها من اصطلح على تسميتهم بنجوم الكلام سماعة الهاتف ليرد على الصحافي الذي كسر ضباب عزلته الافتراضية. لايخلو الأمر في البداية من حجتين أو ثلاث لتأجيل الموعد رغم أن 70 في المئة منهم يشتعل يوميا ألف مرة في إنتظار تليفون طائش من أي عابر يسمح له بالاندماج ولو بكلمة في دروشة الميديا والصحافة. بعد الحجج يحق له اختيار موقع المواجهة. طبعا هو الآن في قلب اللحظة التي طالما انتظرها ويحق له الدلال. المكان المحدد إما منزله حيث سيسمح لبارانويته أن تتضخم، أو مكان عمله حيث المساحة واسعة لاستعراض الهيبة والنفوذ، أو أخيرا وقليلا ما يحدث مكان حيادي ربما مطعم أو كافيه علي الطريقة الحديثة، ربما إتقاء الحميمية يخافها. دائما يلتزم طرفا الحوار بالموعد المحدد، وهذا هو الملمح الوحيد والنادر للتساوي بينهم.والآن فلنتحدث عن الأسلحة التي جلبها الطرفان للموقعة المنتظرة: أنت من ناحيتك كصحافي مطالب باستلهام علامات للطريق عبر أرشيف الحوارات السابقة للهدف، كذلك التواصل الاضطراري مع منتوجه الثقافي حتى لو تعارض مع ذائقتك الشخصية. بحثا عن المشترك، تقنع نفسك بكثير من التهذب والتواضع بأن إنتاجه لازال قادرا على إثارة أسئلة ما وأن جعبته بعد مئة حوار على الأقل لازالت تحوي شيئا مهما. ثم عليك أن تتجنب الأفخاخ الكلاسكية للمحاور قدر الإمكان، فبعضهم تتلبسه حمّى العراف الكوني الذي سيشهد التاريخ بعد قليل بعبقرية استشرافه للمستقبل. والبعض يختار التواطؤ على الجميع فيبث رسائل مدسوسة بعناية بين ثنايا الحوار للرد على منتقديه أو إرهاب خصومه. والبعض يتقمص روح أحد قضاة محاكم التفتيش الأسبانية للبحث في أسئلتك عن آراء الغير فيه، وكأن من يجلس أمامه شفرة مستغلقة أرسلها له كبير بصاصي الأمير. البعض ممن لهم تاريخ سياسي يتخيلك جزءاً من المؤامرة الكونية التي تستهدفه، أو بإيجاز، أنت في جميع الاحوال مجرد زجاجة خالية سيعبئها برسالة ويقذفها للبحر أو في أقل الإحتمالات مجرد طبق لاقط في أعلى بناية عقله. الكل يسألك من البداية (وكأنه لم يستعلم عن ذلك مرتين في مكالمة الهاتف) عن الصحيفة التي تعمل لها، وبعد سماعه الإجابة­ ولاأدري لماذا يشوبنا خجل منها ­يبدأ في ضبط موجة البث لمستمع إفتراضي حدده سلفا. إن كنت من صحيفة ثورية معارضة جاء وقت شتيمة المؤسسات الرسمية، وإن كنت من صحيفة رسمية صوب سهامه لمعارضي الثقافة الرسمية، وإن كنت مستخدما في بلاط صحيفة خليجية كان الحديث خاليا من فزع المحرمات. تحديد جهة سن الناشنكان هام جدا كي يبدأ التصويب. طبعا أنت كمستخدم في آلية التصويب العقيمة تلك، مهما كانت جديتك في البحث عن حقيقة ما أو معرفة أو خبرة مضافة لا تستطيع أن تختلق، فيما يتجاوز أسئلتك المسبقة، حائط الإجابات الكلاشيهية المكررة حتى لو تفننت في استنطاق ما هو مخبؤ بين تلك الرصاصات الطائشة. في معظم الحالات هناك نص حاضر لدي الكاتب لا تمثل أنت فيه سوى الهامش. هو لا يجيب علي أسئلتك بل يجيب على ما افترضه هو من أسئلة متوقعة. لذا ليس من المدهش أحيانا أن تجد الشيء ونقيضه داخل نفس الحوار أو بين ما يقوله الآن وما ذكره منذ أيام لصحيفة أخرى. والأرشيف الصحافي لأي مثقف على هذه الشاكلة خير دليل. المؤكد أن صدمتك ستتصاعد عبر دقائق الحوار، فامتهان الكذب الأدبي أدب، بينما إمتهان الكذب الاجتماعي والثقافي والسياسي لا يمكن وصفه إلا بالكذب. البعض فيما هو يسترسل بعد نحنحة إذاعية يمسح تاريخه الثقافي ويدق إسفينا أبديا بين ما يكتبه وقد تتعاطف معه وبين ما يتفنن في التبجح به. والبعض قد يدهشك بهشاشة ثقافته الأدبية حين يخطئ في اسم عمل عالمي أو كاتب شهير. والبعض بإحباطه الشديد تهيأ لانهيار وشيك. والبعض، بتشدد مواقفه الفنية مما يكتبه أو يكتبه الآخرون، جدير بصحبة أبو مصعب الزرقاوي. والكل مشدود للحظة سابقة في الوعي تتعالى على ما هو يومي لصالح الخبرات المنجزة. الأيديولوجي منهم يفتقد الى ما هو تلقائي في علاقته بأيديولوجيته، والحكاء منهم يحتاج الى فلتر ينقذك من دائرية تناقضاته، والمتعالي يحتاج الى من يشج رأسه بفأس، والمستريب الفطن جدير ببصقة تنزعه من حالة الاستشهاد الكاذب. المؤكد أنك لن تملك القدرة على إعطاء كل ذي حق حقه عند النزال، أو عند ما يمكن أن تسميه المعاركة الفكرية لقارئ افتراضي بستهدفه المفكر الكوني. أنت مجرد الواقي الذكري الشفاف الذي يستخدمه مدعي الفحولة الفكرية كي يجد مبرراً لنفسه لأن ينظر في المرآة متفاخرا . بعد أيام ستكون مضطرا للدفاع عن غياب ألف سؤال حقيقي كان من المفترض تحققه في تلك المقابلة، فيما يستقبل الكاذب اتصالا تليفونيا من صديق أو مستهلك يثني على اكتشافاته في حواره الأخير. لايعرف أحد كم من الساعات قد قطعتها مشيا للتخلص من إحباطات تلك المقابلة الكئيبة، التي لو قدر للقارئ أن يراها كما حدثت في الواقع لآمن بقيمة الخيال، ذلك الذي يجعلنا على مسافة كافية لإدراك عبث الواقع.

في مقهى الوطن .. الحساب يجمع


يقول عملاق شعر العامية المصرية الراحل عم فؤاد حداد في مقدمة غير منشورة لأحد دواوينه: "بعض الخواطر كاذبة مثل الحسابات الدقيقة، أي نعم إن ألصق الفنون بالضحك والسخرية أسرعها إلى العطب. إلا أن النكتة إما بائخة وإما قديمة، ومن ألف نكتة تعيش اثنتان أو ثلاث". هكذا شيع سلطان "القوّالين" المصريين إحدي أهم ميكانيزمات الحيل النفسية للشعب المصري ـ أي النكتة التي يلجأ إليها في سرائه وضرائه ـ إلى مثواها الاخير بعد أن افتقرت مخيلة الابداع العفوي لذلك الشعب كثيراً من طزاجتها. أما ما لايعرفه الشاعر الذي مات من كثرة الغناء هو أن نظامه السياسي قد أممّ، فيما هو يؤمم الهواء والماء، النكتة عندما جمد الخيال المجتمعي عند حدود نكاته البائخة والتي ترفل منذ سنين في ثياب حداد لانهائي. من منا مثلاً لا يتذكر نكتة صاحب المقهى الشهيرة التي يسأله فيها أحد الزبائن عن سر الصور الثلاثة المعلقة خلفه فيجيبه أن الاولى صورة الزعيم الذي أمم القناة، الثانية للزعيم الذي عبرها بجنوده، وعندما سأله عن الثالثة أجابه بأنها صورة أبو علاء شريكه في المقهى. مثل هذه النكتة ماعادت تضحك أحداً بعد أن أوشك علاء الابن شخصياً على وراثة المقهى، لتتحول المرارة التي ربما تحملها النكتة إلى حقيقة واقعية تتجاوزحدود المبالغة لتتكرس واقعاً من كثرة تكرارها. الواقع نفسه ربما يتحول لنكتة مبسطة ومدهشة لاتحترم أي خيال يتجاوزها، هذا ما يتجسد ربما يوماً بعد يوم، في كيفية إدارة النظام المصري لأحوال مجتمعه. فالمتابع من بعيد يندهش من سذاجة النكات أو المنطق النكاتي الذي يحكم علاقة هذا النظام بمواطنيه وقضاياهم. هذا الاسبوع مثلا تفجرت للمرة الثانية في عام أحداث فتنة طائفية كبيرة بالإسكندرية، وخرج علينا مبدعو النكات بأن مرتكب الإعتداءات على كنائس مسيحية في يوم الجمعة الاخيرة للصوم الكبير، هو شخص مختل عقليا، ولنلاحظ ان الهجوم تم على ثلاث كنائس بشكل متزامن وفي مناطق جغرافية متباينة تحتاج إلى جانٍ متعدد الارواح كي ينجزها في ساعة واحدة. تحتاج إلى جنّي يلبس طاقية الإخفاء كي يتحرك بسيفين ليدخل حتى عمق الكنيسة تحت أعين قوات الشرطة التي تحاصر الكنائس في مثل تلك المناسبات وبدونها. يدخل الجاني ليقتل ثم يخرج سالما ليركب الترام الذي كثيرا ما يقف في إشارات ومحطات، ثم يدخل الكنيسة التي تليها فيشهر سيوفه وهكذا إلى مكان آخر، المشكلة ان النظام، مع تصاعد وتيرة الغضب القبطي في جنازة القتيل الاول، وقف جنوده الاشاوس ـ وتشهد على ذلك صور موقع ال بي بي سي ـ على غير عادتهم موقف المتفرج المحايد من إقتتال دام جرى من شارع إلى آخر بين جموع المنتفضين لحماية الشرف الاسلامي في مواجهة ما أسموه بتلكك المسيحيين. لسان حال النظام ممثلاً في طلعة وزير داخليته يقول: ليس على المجنون حرج. نعم مجنون واحد اضطرت أمه أن تعترف بجنونه الموسمي في كل أبريل من كل عام. النكتة هنا يدافع عنها ملايين المسلمين بشماتة التواطؤ الشعبي مع الكذب الحكومي الساذج، خاصة وأن أعداد القضايا التي يرتكبها مجانين في إزدياد هذا العام تحديداً.هكذا تتحول قضية إحتقان طائفي يغتذي من أوضاع إقتصادية وسياسية خانقة إلى فعلة مجنون لا حرج عليه. ولتطنطن الابواق بأن مصر مستهدفة و"تحيا الوحدة الوطنية"، وباقي الاوبشن التلفزيوني الشهير مثل عاش الهلال مع الصليب وقبل اللحى البيضاء والسوداء على خلفية أغنية "تبقي انت أكيد ف مصر" وكل سنة والفتنة نائمة وتبّت يدا من أشعلها. المصيبة أن لا أحد يقدر على البوح بما هو مسكوت عنه ومسموع يومياً من ألف مئذنة تصف المسيحيين بالكفرة.هكذا تعلم الحكومة العاقلة التي تحكم شعباً يفخر بجنونه أنه كلما أشعل مجنون فتيلا تجد مبررا لمدّ حالة قانون الطوارئ الذي علت أصوات مؤخراً بضرورة إلغائه. المجنون هنا هو حلها السحري القادر على إعادة اللعبة إلى نقطة الصفر، أما حالة التلخيص المدهش لصورة مجتمع عن نفسه فحدث ولا حرج. فإستعارة صاحب المقهى قابلة للمط لتشمل مجمل علاقة النظام بملف الاقباط، صاحب المقهى يظل دائماً، كما في الافلام العربية فترة السبعينات، يجلس على صندوق الماركات الذي يحاسب صبيه من خلاله على مشاريب الزبائن. المجتمع بكامل شرائحه وطوائفه حاضر كزبائن في مقهى الوطن. ربما يسمح صاحب المقهى لزبون ألا يدفع ثمن مشروبه اليوم لكن كله على "النوتة"، إن لم تدفع اليوم فالحساب سيجمع غداً. لقد تجاوز صاحب المقهى مرة لبابا الشعب القبطي (لاحظ تعبير الشعب القبطي الذي تحول إلى لفظ تقليدي في التعليقات الصحافية) إذ سمح له ان يعتكف حتى عودة وفاء قسطنطين إلى أحضان كنيستها، ثم حمى لك صاحب المقهي كنائسك عندما حاصرها شعبه المسلم بعد فضيحة سي دي المسرحية التي تسخر من الاسلام. هكذا عليك مشروبان، لكن الحساب ـ على لغة أهل المقاهي ـ يجمع، وإن لم يعجبك فمع السلامة، ورش ميه، المصيبة ان هذه الصورة الاستعارية المخلة تستطيع أن تطبقها بمدلولاتها المدهشة على مجمل التصاريح الرسمية الصادرة عن النظام في كل مستوياته فيما يخص الموقف القبطي. تحول ملف أقباط المهجر الحرج بين صاحب المقهى والحكومة الامريكية إلى زلة لسان يحاسب عليها الاقباط جماهيرياً وسياسياً مع تصاعد الغضب الشعبي ـ فقط ـ من الممارسات الامريكية في المنطقة. وهي الورقة التي طالما إستغلها البابا شنودة في الانفراد بملف شعبه حين يحل ميعاد كشف الحساب الموسمي مع صاحب المقهى. بعض بنود كشف الحساب تخضع للتخفيض، فالحزب الوطني لم يعط للاقباط "كوتا" نيابية بعد الانتخابات الاخيرة حتى ولو بالتعيينات التقليدية؛ حركة المحافظين الاخيرة إنخفض تمثيل الاقباط فيها إلى محافظ وحيد محاصر في مكتبه في قنا بعد أن رفض مرؤوسوه العمل تحت وصايته، والمقهى الجديد لمصر المستقبل ربما يديره الاخوان لا محالة. على البابا إذاً أن يتحضر هو وشعبه لفترة هروب إلى اديرة الصحراء على شاكلة تاريخهم في فترة القهر الروماني. لابديل إلا تحمل فاتورة الحساب في موسم المزايدة الدينية والتنافس بين الدولة وخصومها الاخوان على إسلامية المقهى والدعاء بوقوع أخف البلاءين.عند كل تفاوض دائماً ما تكون هناك مغالطة ما للتنصل من الحسابات المتراكمة، وغالباً ما يلجأ من يستحق الدفع لطرفه إلى المبالغة بحساب خدمة فوائد الدين المؤجل. هذه المرة، وبالإسكندرية، دفع كل زبائن الوطن فاتورة مضاعفة، إثنين من القتلى وعدداً كبيراً من المصابين وتربص مستعراً إستعداداً لنوبة جنون جديدة، بينما المقامرون على مقهى الوطن يتزايدون ويرفعون الرهانات إلى مستوى الدماء. لاسبيل إلى العودة فيما ترتفع الاسوار حول الجميع، وتسود مفاهيم البقاء للأقوى. تتحول النكتة من فعل للتسرية والتنفيس إلى كابوس مفزع، كابوس يشبه تلك النكتة: في طائرة الرئاسة يطلب قائد الطائرة تخفيف العدد لضرورات الامان، يلجأ الرئيس إلى التضحية بأكبر الوزراء سناً، لكن المشكلة لاتحل، وهكذا يتخلص الرئيس من وزير تلو الآخر حتى لايتبقى غيره وكل من شيخ الازهر والبابا، عندها يحذر البابا الرئيس من مغبة التضحية به لأنه أقلية، ينظر الرئيس لكلا القيادتين الدينيتين ويقترح أن يسأل كل منهما سؤالاً يحدد من الاجدر بالبقاء فيوافقا، يسأل الرئيس شيخ الازهر: ما هي بلد المليون شهيد؟ فيجيب الشيخ: الجزائر، يلتفت إلي البابا سائلاً: ما هي أسماؤهم؟

استعراض فحولة دولة في مسافة 150 متراً


من أين خرج هؤلاء فجر يوم الخميس الماضي؟ خرجوا علي الأرجح من معسكراتهم البعيدة في ضاحية طرة بجوار السجن الشهير، أو ربما ازدحم بهم طريق محور 26 يوليو وهم محشورين في عربة العمليات الخضراء الكبيرة، من المتوقع أيضا أن يكون الضابط المسؤول قد أهان أمهات المئات منهم في طابور جمع الجنود فجرا، فخرجوا عن بكرة أبيهم للإنتقام ممن كانوا سببا في إيقاظهم فجرا ليتفسخوا في شمس قارعة الطريق لمدة لاتقل عن الخمسة عشر ساعة، هم لايعرفون من هم القضاة الذين سببوا هذا التعكير لمزاج البهوات منذ ليلة الأمس، هم لايترجلون مثلا في إجازاتهم النادرة أمام فاترينات محلات الملابس في شارع عبد الخالق ثروت الذي سيحاصرون جنباته بعد ساعات، هم لايعرفون في وجوه المتضامنين مع القضاة علي الرصيف وخلف الحاجز أي عزيز أو قريب، ولاهم كذلك تلقوا من رؤسائهم أي دعوة أيديولوجية تصف العشرات التي تحتجز خلف الحاجز بأنهم مثلا أعداء الوطن كما لقنوا أحمد سبع الليل في فيلم البريء، كل ما يعرفونه أن هؤلاء المتجمهرون هم السبب في لباس كل منهم الأسود الملهب وفي إعتمارهم تلك الخوزات الثقيلة في عز الشمس التي تذكرهم ببلادهم البعيدة، هؤلاء المتجمهرون هم السبب في سباب لاينقطع حين يؤمرون بالتجمع عند النقاط الملتهبة أمام سلم نقابة الصحفيين أو أمام نادي القضاة، هم لايقرأون الصحف ولم يدخلوا مهمة في يوم بحثا عن حق ضائع، لأنهم ببساطة بلا حقوق، كل ما يحلمون به هو الإنتهاء من حكم الميري الذي يمتد في حالتهم لثلاث سنوات ليعودوا الى قراهم البعيدة كعمال تراحيل، لذا تبدو الضربة بـ"الجملك "الاسود التي يوجهونها بكل وحشية لمتظاهر فعلا يتناسب طرديا مع إنهاء مهمتهم في يوم طويل سيقضونه داخل الأقفاص دون شربة ماء أو كسرة خبز حتي إتمام مهمة الإجهاز على المتجمهرين، هم أسوأ حالا من رفاقهم الذين يرتدون زيا مدنيا متسلحين بشوم ويركنون في إحدي التقاطعات ليستخدموا ساعة الحسم والمجد، حين يأتي وقت السحل والضرب المنظم لفرق الكاراتيه والتي يأتي أفرادها بعد إختبارات من بين الجنود العاديين للأكثر قسوة وحنكة في إستخدام يده العارية، كما يسمح لهم الضياط في ساعات الإنتظار ببعض الإرتخاء النظامي فيمارسون تسليتهم في معاكسة النسوة في الطرقات وعلى النواصي، وتتمثل مكافأتهم الكبرى حين تحتوي التظاهرات المطلوب التعامل معها علي فتيات حاسرات الرأس تداعب وجوههم الطرية أحلام الشبق الجنسي في ليالي الخدمة العسكرية الطويلة، هؤلاء الفتيات وبأمر من البيه الضابط يتحولن الى فرائس للعبث الجنسي لهم في لحظات الحسم، يأمره الضابط أن إفعل كل ما يحلو لك دون إغتصاب فعلي بجسد الضحية نهارا جهارا كمكافأة لك علي إلتزامك بالضرب في الأماكن الحساسة للمتظاهرين الرجال، هكذا يتم تدريبهم في معسكرات الأمن المركزي البعيدة عن قراهم، يحكي أبن عمي الذي كان جنديا لثلاث سنوات بجيش الأمن المركزي أوائل التسعينات، أن الضباط كانو يوقظونهم ليلا في حفل تعذيب جماعي ويقومون بتغطيسهم في مياه باردة ويشتمونهم بأمهاتهم وينادونهم بأسماء أمهاتهم تحت ضرب وحشي من قدماء الخدمة لكسر نخوتهم ولتتمرغ جباه أبناء الفلاحين والصعايدة تحت أحذية ضباط كل مهمتهم الوصول بكائنات إنسانية كل جريمتها أنها لم تكمل تعليمها النظامي للوصول بهم الى ما يشبه الحيوانات الضارية التي تعبد النظام ممثلا في حذاء الضابط، أبن العم الذي عينوه بعد إلتزامه العسكري غفيرا بنقطة شرطة قريتنا البعيدة أطلق النار علي يده من سلاحه الميري بعد أن أهانه الضابط وشتمه بأمه، قال لي وهو ممدد في عنبر بمستشفي الشرطة أنه كاد أن يطلق النار علي الضابط لكن خوفه علي أبناءه القصر دفعه لتفريغ خرطوش بندقيته في كفه كظما لغيظه وبحثا عن رفد طبي من الخدمة فبقراته أولي به من خدمة الدرك، هو يعرف جيدا أن ضباط الأمن المركزي يتم إختيارهم من فشلة وراسبي كلية الشرطة وغالبا ما يكونون ذوي سجلات محاكمات أخلاقية مشينة ولايملكون نفوذا لوضعهم بخدمات إدارات مثل السياحة أو المرور، يلعب سجلهم الدراسي السيئ وتعاملاتهم مع الجمهور بطريقة عنيفة معيارا للإلتحاقهم بالأمن المركزي، يأتمر أبن العم ورفاقه في موقعة وسط العاصمة بأمرة ضباطهم الذين يختفون غالبا خلف زي أسود مشدود ونظارة ريبان في مشهد يذكرك بأباطرة الحرب الصرب، لكنهم في ميدان المعركة المشؤوم ليوم الخميس الأسود يعرفون أن دورهم ينتهي عند حدود المناورات الكبيرة، فهم في هيراركية المشهد الأمني لشوارع مغلقة من أجل حفنة متظاهرين يأتمرون عبر اللاسلكي بأمر ضباط مباحث أمن الدولة، وهم الضباط الذين يتولون بملابسهم المدنية تحديد الضحايا المطلوب تأديبها وإعتقالها وغالبا يكونون أقرب مايكون من المتظاهرين وربما يبادلونهم الإبتسام المستفز، لكنهم ملوك المناورة قادرين علي تطويق المتظاهرين برجالهم من الأفراد المدنيين الذين سرعان ما تفتح لهم ثغرة بين جنود الأمن المركزي لإصطياد طريدتهم وفصله عن مجموعة المتظاهرين حيث أقرب رصيف جاهز لإستيفاء المشهد باقي إكسسواره من سحل وضرب ثم تندفع سيارة في الغالب مدنية وتخص أحد الضباط لحمل الضحية ـ أحيانا مايوقفون تاكسي شارد إبتلاه الحظ العاثر بالمرور من جانب المعركة ـ حتي عربة الترحيلات الخضراء الكبيرة والتي تنتظر عند إحدي النواصي، من أمام سلم العربة يتم تجريد الضحية من أوراقه الشخصية تحت الضرب وكذلك جهازه الخلوي لتتسلمه الوحوش الضارية داخل العربة الكبيرة فيما يسمى حفلة التشريفة الأولى، الأمر يختلف في حالات الفتيات والنساء ولنورد هنا شهادة عبير العسكري الصحفية بجريدة الدستور والتي نشرتها جريدة المصري اليوم علي صدر صفحتها الأولي يوم السبت الماضي: عبير خرجت صباح يوم 01 مايو الحالي مبكراً من منزلها بالمعادي، متجهة الى نادي القضاة بوسط العاصمة لتغطية محاكمة المستشارين مكي والبسطاويسي، ومظاهرات التضامن معهما، وبمجرد أن نزلت من التاكسي بشارع عبد الخالق ثروت.. فوجئت بعدد من الأشخاص يحيطون بها ويكممون فمها، ويجرونها الى "ميكروباص" بالشارع. وداخل "الميكروباص" بدأت حملة تأديب، بالضرب والسب بأحط الألفاظ، ثم تحرك الميكروباص في اتجاه مكان خاص بالشرطة في شارع رمسيس، وهناك واصلوا حملة التأديب، دون أن يلتفتوا الى توسلاتها لهم بأنها صحفية، بل كان الرد استمرار السب والإهانات. وقالت عبير لـ"المصري اليوم": "بعد فاصل من الضرب والإهانة، تم نقلي الى قسم السيدة زينب، وهناك وضعوني في إحدي الغرف، وقال لي أحد الضباط إنهم سيفعلون بي نفس الشيء الذي فعلوه مع أسماء ورشا وندي، في ذات الغرفة، وأنني لن أري النور، لأن أحداً لم يرني أثناء القبض علي، و"ماليش دية"، ثم قال للمخبرين: "انتوا مش شايفين شغلكوا ليه.. بعدها بدأوا في ضربي وتمزيق ملابسي وتعرية جسدي". واستمرت حفلة هتك عرض عبير حتي رن تليفونها المحمول فأسرع رجال الشرطة بانتزاعه من حقيبتها، وأغلقوه، وبعد يوم طويل، وبعد انتهاء حصار القاهرة، قرر الضباط إلقاءها في الشارع، بعد تهديدها بألا تظهر في وسط البلد مرة أخرى. قالت لهم: أُريد أن أركب المترو، فطلب أحد الضباط من رجاله اصطحابها حتي الكورنيش لتذهب الى منزلها، وخرجت معهم وهي عارية، وفي الطريق أوسعوها ضرباً وشتماً وبصقاً، وعندما يحاول أحد المارة أن يتدخل، تكون الإجابة دي بنت مسجلة آداب. وتختتم عبير أقوالها بأنها حتي عندما حاولت الاحتماء بأحد المحال التجارية، وقام صاحبه بإعطائها شيئا تستر به نفسها، قام رجال الشرطة بتهديده ليطردها، وخرجت من المحل لتجلس خلف كشك كهرباء حتي حضر زملاؤها ونقلوها في تاكسي لمقر الجريدة.الصورة ربما تحتاج إيضاحا من نوع آخر، فأجهزة الأمن المصري عرفت تقسيما تاريخيا للعمل يسمح يمرونة تصنيفية تتسع لتستوعب أطياف المشهد السياسي بتنويعاته، عرف عن تلك الأجهزة عنفها الشديد في المكاتب المختصة بشؤون الإسلاميين خلال فترة التسعينات، حيث إستخدام العنف الدموي كان ممنهجا في مواجهة معارضة مسلحة، فيما كان الأمر مختلفا مع باقي التيارات السياسية، اليسار والناصريون عانوا من تعذيب أقل وطأة في مكاتب تختص بالمعارضة السلمية، أتذكر قول الأصدقاء عن ضباط مباحث أمن الدولة في شعبة مكافحة الناصرية حيث الضابط يستقبلك بعد حفلة التشريفة الكبري بسيجارة سوير كيلوباترا مبديا إعتزاره وخلفه تتراص في مكتبة صغيرة أعمال ساطع الحصري والميثاق لجمال عبد الناصر، فيما يطلب للمعتقل قهوة سوداء ويتحول الموقف الى مقابلة روتينية بين أبناء حقل تخصصي واحد، الجلاد يعرف أيديولوجيا ضحيته والضحية تثق في ثقافة جلاديها، خلاف أيديولوجي واضح بين وجهة نظر سياسية وآلة قمع بيروقراطية متسقة مع تخصصها، لكن الأمر تحول مع نهاية المعركة في صعيد مصر وعودة كوادر دموية مكللة بالغار من المواجهة مع الإسلاميين الى العمل في شعب الطلاب والتيارات السياسية السلمية ومع إزدياد الحس الأمني لمؤسسات النظام في ظل إنعدام مشروع أيديولوجي لمواجهة عدو ما، أدي ذلك الى دخول القيادات الأكثر دموية في صلب الإحتجاجات السلمية، ومع ميل منتظم لدي المؤسسة الأمنية لإستغلال نفوذها وتأكيد قدراتها بات من الطبيعي ذلك الميل للتنكيل بأي مخالف للرأي مع تقديم نماذج متقنة من الإستعراض في مواجهة الجميع، وعلي الرغم من أن الإستعراض الأمني يلقى سخرية من الرأي العام حين يحين وقت المواجهة الحقيقية مع أنفار من فلول الحركات الإسلامية الجديدة، فإن فاتورة دفع ثمن الثقة المهتزة تبدو مضاعفة مع قيادات باتت تتفاخر بإستحلالها الذكوري الوقح لأجساد المتظاهرات، فليس بعيد عن تلك السياسة الأمنية تجربتها في إذلال كوادر الحركة الإسلامية بإستهداف نساؤهم، لكن الأمر الملفت للإنتباه هو ذلك الإمعان في ممارسة لا أخلاقية بإستهداف ناشطات سلميات بذلك التحرش في الشوارع المفتوحة، هناك ثائر ذكوري مضمر يتناسب مع رجعية ومحافظة تلك القيادات على المستوى الشخصي، ليس من الغريب نهائيا أن تجد قيادة أمنية تبدو على ملامحها علامات التدين، وهي ترى في ذلك الإنتقام من فتيات خرجن في جرأة للتظاهر، تمازج سهل فهم تناقضاته، إخلاص طفيلي للنظام مظلل بمسحة رجعية إسلامية وذكورة مهزومة لاتجد إنتصاريتها إلا في مشاهدة التحرش والإعتداء الجنسي على فتاة في الطريق العام، فالضابط الذي يصر على الإستعراض بصحفية عارية في الشوارع يوجه رسالته للجميع، هذا المجتمع مستهدف بالإذلال أيا كانت شرائحه وطبقاته، وممارسة السياسة ممنوعة على الجميع وخاصة النساء وإلا الجرسة وتشبيهها بفتيات الليل، بالطبع يبدو منطقيا ألا يتوقف نفر للدفاع عن فتاة ليل تضرب ممزقة الملابس في ميدان عام، بل ربما يشارك البعض في حماية مجتمع أخلاقي متناقض في ضربها، ذلك الإمعان في المهانة طبيعي من نظام بات هاجسه الوحيد البقاء تحت أي شرط، نظام فقد القدرة على إنتاج مبررات للقهر فأصبح يميل الى سادية مفرطة في التعامل مع الجميع، خرج الآلآف من جنود الأمن المركزي صباح يوم الخميس من ثكناتهم وعادوا وهم يؤرجحون عصيهم الخشبية ويتثاءبون من ملل إنتظار بداية المعركة وسرعة حسمها النهائي في لحظات، وعاد الضباط المتفاخرون بعضلاتهم الذكورية ليردوا علي هاتف إحدي المعتقلات الذي تركوه مفتوحا ليسمعوا أباها صراخ إبنته، وبقي في خلفية المشهد ملايين من الجهلة الذين يرون في المظاهرات تعطيل لمصالحهم بعد أن أغلق الأمن شوارع بأكملها، وفي الصباح الباكر ستخرج الأهرام بعناوين تؤكد أن قلة مأجورة حاولت التظاهر وتعطيل المرور فتصدت لها قوات الأمن.

الاستعارة الإيرانية... والجهل العصامي اللذيذ


"لما إتحجبت حسيت كأني عملت كيكة كبيرة، وكان نفسي أوزع منها على الناس كلها" هكذا بررت الفنانة الطاهية حنان ترك تدشينها لمؤتمر صحافي خاص لإعلان خبر إرتداءها الحجاب. إستوقفتني الإستعارة المطبخية التي وجهتها الفنانة إلى مشاهديها من ربات البيوت في نشرة مجلة روتانا الفنية، فتلخيص بهجة الحجاب في صينية كيكة ليس بغريب على وعي الفنانة الشابة ووعي متلقيها. المدهش بحق كانت تلك الحالة من التبرير التي سقطت فيها حنان أمام مشاهدين أصبحت بشائر الفتح الحجابي لفنانة مشهد إعتيادي لا يحتاج إلى تبرير أو مصطلحات. فهل صدمت حنان ترك شيئاً من المخيلة الجمعية لمشاهديها بقرارها المتوقع؟ لا أعتقد. كذلك تنتابني الدهشة من حملة الصحافيين المصريين الذين إعتبروا حجاب حنان ترك إنهياراً لآخر قلعة من قلاع الفن المصري. ربما أجد لبعضهم من ضعاف العقل والخيال مبرراً، لكن لماذا أصابت الجميع هذه الدهشة الملتاعة وكأن السينما المصرية فقدت بحجاب ترك رائدة من رائدات السينما؟ حالة التثقيل المبالغ فيها لحنان ترك تؤكد أن بعض نقادنا أصابهم شيء من ضعف الذاكرة، فالفتاة التي رفضت منذ عامين دوراً لحبيب قلبها وأستاذها ومعلمها ـ هكذا كانت تصف يوسف شاهين بمنتهى النفاق التمثيلي لسنوات عدة ـ لمجرد أن الدور إحتوى على قبلة طويلة، ليس بغريب عليها إختيارها للحجاب والفن بالسلطات التشبيهية. كما يعرف المحيطون بها والبعيدون عنها تدينها الشديد وإنتماءها لعائلة متدينة تقليدية من الطبقة الوسطى. الأمر لايحتاج إلى خيال خصب فهي في كل إطلالة تجعل من ـ إن شاء الله والحمد لله وبإذن الله ـ نصاً متكرراً بين كل جملة وأخرى، ولا أقصد بذلك المعنى الثقافي لتلك الكلمات ولكن المعني الديني الذي ينير وجهها كلما تكلمت عن دور جديد في فيلم تجاري وليس للحديث مثلاً عن فيلم الشيماء. بإختصار حنان ترك ردت إلى أصحابها الحقيقيين وبقت الحسرة لمن إستهلكوها مرة عبر المخرج الشهير الذي وصفها في إطار خطرفة الشيخوخة بأنها شبيهة فاتن حمامة، ومرة عبر طلتها الجريئة الإنفعالية وهي تدافع عن دورها في فيلم "دنيا" التافه فنياً. صدق البعض أن خلف العيون الجاحظة بمبرر وبدون مبرر في كل أدوارها ـ على عادة كل ممثلي الأستاذ شاهين في آخر عشرة أفلام ـ صدقوا أن خلف تلك الإطلالة المزيفة ثمة عقلية تقدمية ما. بمنتهى الصدق لم أتوقع شخصياً أن أكتب سطراً واحداً عن ترك بخير أو بشر، ولكنها مصر بلد الألف عجيبة وطاحونة الهواء القادرة على تحويل حدث متوقع إلى أزمة بعد أن فقدنا الخيال الذي ربما يسمح لنا بالحديث عن أزمات حقيقية. لكن الأمر لايخلو كذلك من مناسبة لتأمل حال السينما المصرية من حيث هي ظاهرة إجتماعية ثقافية معبّرة عن الظرف الذي تمر به مصر بإمتياز، ليس عبر تثمين أو أدلجة مصير فردي تمثله حالة ترك بإمتياز، لكن عبر إعتبار الحالة منفذا لتأمل ما خلفها من تأويل. حنان ترك هي إبنة هذه الشريحة باقتدار ونموذجها الشارح. دخلت هي وجيلها من فناني التسعينات إلى الساحة السينمائية في لحظة ما بعد حرب الخليج الأولى، بينما جيل جديد من المتلقين قد صدموا في حال سينما تاريخية لم تستطع صناعتها أن تتجاوز مأزق وجوهها الواقعيين، وجوه نور الشريف ويحيي الفخراني ومحمود عبد العزيز وقبلهم بمسافة وإختلاف كبير أحمد زكي وعادل إمام بطلا الثمانينيات المتوجان، أو جيل ليلي علوي وإلهام شاهين ويسرا، وهو الجيل الذي هزمته هزيمة مخرجيه الواقعيين الجدد من أمثال عاطف الطيب أو محمد خان أو داوود عبد السيد أو خيري بشارة ورأفت الميهي. فحرب الخليج أعادت السينما المصرية إلى نقطة الصفر متزامنة مع مناخ هزيمة وجودية كاملة للمجتمع، هزيمة الشيوعية وإنهيارها المدوي، سقوط الحلم القومي العروبي، هشاشة المصير النهائي للقضية الفلسطينية مع مدريد... ثمة إنهيار كامل لمنظومة رمزية من القضايا التي كونت خيال هذا الجيل، كذلك كان للأزمة الإقتصادية العنيفة وتصاعد روح الإرهاب المؤجج في كل شوارع العاصمة والأقاليم، ما أشاع روحا من الصدمة المجتمعية الكاملة في أحلام ذلك الجيل من مبدعيه، أحس كارتيلات الإنتاج التقليدي للسينما المصرية بمعالم اللا أمان التي أطاحت فجأة بمقدرات جيل كامل من السينمائيين، (كان حجم الإنتاج عام 94 قد وصل إلى 16 فيلماً لسينما تفاخرت بحاجز المئة كثيراً). ولكن أين كانت حنان ترك من ذلك الظرف التاريخي؟ كانت في أقصى طرف المشهد راقصة باليه قدمها خيري بشارة في دور الطفلة اليتيمة بين ثلاثي نسائه في فيلم "رغبة متوحشة" عام 91، وهو الفيلم الذي لم تنقذه جماهيرية بطلته الثمانينية نادية الجندي من الفشل الجماهيري. مرّ رغبة متوحشة دون إحتفاء نقدي ـ بينما إحتفوا بفيلم عن نفس المعالجة لعلي بدرخان تحت إسم "الراعي والنساء" ـ ومر كذلك دون إحتفاء جماهيري بعد أن فشلت خلطة بشارة . مرة ثانية في مسلسل أصاب بعضا من النجاح في العام التالي، وكان "المال والبنون" فتحا في رسم صورة حنان الفتاة الصغيرة الفقيرة العاشقة بطل الحي من أعلى سطوح البناية. تسربت إذن إبنة السادسة عشرة في نسخة ستينية درامية لحال الحارة المصرية أبدع فيها السينارست محمد جلال عبد القوي في الإمساك بمصائر عائلتين في حي الجمالية وإن بقيت المعالجة أثيرة تسمية المسلسل ذي التهويم الديني عن الصراع بين المال الفاسد والأبناء الصالحين والأبناء الفاسدين. توفر لحنان معبر آمن عبر الدراما التلفزيونية التي شهدت رواجاً على حساب السينما أوائل التسعينيات، ودخلت مع يوسف شاهين تجربة المصير ذي النزعة الجماهيرية متزامنا مع فيلم الإنقلاب التسعيني الأول "إسماعيلية رايح جاي" الذي كان بداية المرحلة الجديدة. جمعت حنان إذن بين كل المتناقضات في تلك المرحلة، وضعت قدما في السينما التي يخرجها عظيم السينما المصرية ووضعت قدما أخرى في السينما التجارية الجديدة وقدما ثالثة وأخيرة في الوسط الأكثر جماهيرية. كان من الواضح أنها تعبر بين زمانين للسينما وتنال كلا حسناتهما. ربما لايشبهها من بنات جيلها الآتي قدر لهن الدخول للساحة بمغامرات أكثر وحظ أقل ما توفر لحنان ترك من حظ وإعتراف من كل أطراف المعادلة. فماذا قدمت حنان ترك طوال تاريخها لتستحق به هذه اللهجة المتشنجة المتأسفة على الخسارة التي مثلتها؟ لا شيء... ليس أكثر من الحضور اللافت في كل الأفلام التي بشرت بموضة السينما منزوعة الدسم والمغلفة بتوابل التقنية الفارغة. لا أتذكر لها دوراً ذا بصمة واضحة، هي أبنة المرحلة لاأكثر، راقصة باليه شابة إستطاعت بملامح هي مزيج من الفكرة التقليدية للفتاة المصرية السمراء مع تشنج شبابي إنفعالي وعيون جاحظة بلا مبرر، لاتستطيع مثلاً أن تضع تعريفاً واضحاً لمدرستها التمثيلية. إذا كان هناك ثمة تمثيل في ما يقدمه جيلها. كانت مثلاً من رواد مصطلح السينما النظيفة الخالية من الجنس والقبل أو المشاهد الساخنة، وتوجت حضورها بزواج فني من رجل أعمال أمن لها الظهور الجيد كنموذج للصعود الطبقي التقليدي. كانت إن طلت في حوارتها التلفزيونية تستطيع أن تشعرك بأنها فعلياً لاتحمل من الوعي ما يتجاوز ما تقدمه من أدوار. ليست مثلاً في ثقافة هند صبري، او غنوجة شعبية تقليدية على شاكلة منة شلبي، أو هي بخفة حضور ياسمين عبد العزيز. هي في المحصلة فكرة مكررة ومجمدة إستطاع النجاح المبكر أن يحفظ لها مساحة لا تستحقها. لذا لم يكن غريباً أن تنطق بما ليست تعرفه حين ساوت ما يفعله جيلها وسينماتهم بالسينما الإيرانية في معرض دفاعها عن تمثيلها بالحجاب. تقول حنان ترك ماهو المانع في سينما بطلتها محجبة بدليل نجاح السينما الإيرانية بالحجاب. لا تعرف حنان ترك عن السينما الإيرانية كما هو واضح غير حجاب بطلاتها على الأفيش، أو ربما راودها حلم الصعود إلى منصة كما فعلت سميرة مخملباف. ربما من همس لها بتلك المقارنة الفارقة لا يعرف عن السينما الإيرانية إلا كونها إبنة شرعية لتجربة أحمدي نجاد السياسية. الجهل العصامي ذلك ليس بجديد على هذا الجيل، جيل تربي على بركة الله، نجمه الأهم وشريك ترك في بطولة معظم أفلام الفترة ـ محمد هنيدي ـ يذبح يومياً عجلاً ولمدة اربعين يوما في بلاتوه فيلمه الجديد خشية الحسد (سيدخل التاريخ بحجم ما ذبحه وليس بحجم إنجازه الفني). هو جيل من أجل التلفزيون، وجيل الحديث عن الخرافة والأعمال والسحر، وهذه الأسباب بالتحديد هي مبررات نجاحه الفني، جيل حركته السينما الجديدة من منطقة إمبابة الشعبية إلى حي المهندسين الأرستقراطي في عامين، جيل إنفتحت له مغارة على بابا، فجلس على بابها يحمد الله على رزقه الحلال، جيل يتفاخر أحد دون جواناته ـ مصطفي شعبان ـ بسرقة الأفلام الأميركية ويري مصيبة السينما المصرية في الثمانينيات أنها قدمت الحارات الوسخة وأحبال الغسيل والأسطح العفنة بإسم الواقعية. هو أخيراً ذلك الجيل الذي لم يرَ في رمزية السينما الإيرانية والتي تحولت إلى إسلوب لمواجهة قمع السلطات الدينية إلا حجاب الرأس. هل تعرف الباليرينة السابقة أن أهم الأفلام الإيرانية صورت خارج إيران؟ هل تعرف أزمة سميرة مخملباف مع خصلة شعرها المتدلية من أمام طرحة رأسها يوم مهرجان كان؟ هل تعرف أن هناك فيلماً إيرانياً إسمه "الدائرة" قدم شخصية الداعرة بحجاب وتعاطف معها؟ هل تعرف أن كيروستامي يصور فيلمه الجديد عن راقصة خارج إيران؟ هل يهمس أحد في أذن حنان ترك بأن أيران ليست المملكة؟ هل تتأمل ترك صورها الصحافية فيما صدور عارية تحيطها بباقات الورود الكرنفالية؟ هل ينصح أحد ترك بأن تتفرغ أخيراً لصناعة الكيك وتترك السينما الإيرانية وأي سينما لحالها؟ إرحمونا يرحمكم الله.

أحمد نبيل الهلالي ...قديس يواجه الموت بابتسامة سخرية


بعد أن رحل آخر محبي الرجل من غرفته بمستشفى السلام الدولي، جلس وحيداً يتأمل تلك المؤشرات التي تجري على شاشات خلفه، يتأمل بابتساماته العذرية تحول الحياة إلى معمل بصري شيق. يستسلم لبرودة الغرفة ويغمض عينيه على خيال رفيقة دربه التي ما ألف رحيلها حتى الآن. يتنهد لنجاته منذ ساعات من الموت المفاجئ، فالجلطة البسيطة كانت ستجعل من موته حدثاً ربما يتساوى به مع من لم يحبهم يوماً. الجلطة الدماغية إعلان بيولوجي عن خيانة لإحدى خلايا المخ التالفة، وهو أبداً لم يشك يوماً بأنه سيموت نتيجة لخيانة مجانية. لم يتخيل نفسه سيتساوى في الموت مع مليونير حجزت الدولة على أملاكه، كما المصاب بالجلطة في المسلسلات المصرية النمطية. شعر فجأة بإنحباس في مجرى البول، حاول أن تصل يده إلى مفتاح استدعاء الممرضين، وبعد أن استدعاهم كثيراً ولم يلقَ جواباً ابتسم وحدّث نفسه: إنت كبرت يا هلالي والا أيه؟ عاودته ابتسامة البهلوان التي طالما ميزت وجهه الصبوح فيما هو ينزل قدميه على بلاطات الأرضية الخضراء المثلجة. خلع أنبوب المحاليل متحررا من ارتباطه بمؤشرات يراها علامة للموت واستند بيديه مطوحا جسده في الهواء. لقف بعضاً من الأوكسجين وخطا أولى خطواته في فراغ الغرفة. المسافة ليست بعيدة... سبع أو عشر خطوات فاصلة. مفتاح الإضاءة ليس بعيداً في جدار الحمام، تخونه قدم عجوز. أنهكته إدامة الوقوف أمام القضاة لنيف وخمسين عاماً. لم يسمع أحد جسد أحمد نبيل الهلالي وهو يرتطم ببلاطات حمام المستشفى. سقط على جبهته، وأبى أن يواجه أشباح الموت بظهر حمل آلاف ألاحلام من خلف القضبان فأدار وجهه كيفما اتفق وشاهد نزيفه وهو يستوي طازجاً على البلاط. لم يصرخ لم يتألم كثيراً، وفيما دماؤه تتسع في دائرة حول وجهه، إبتسم. هكذا يكون الموت الصدفوي. هكذا يستوي مع ألف موت مجاني للفقراء الذين أحبهم. هكذا يدخل المشهد التاريخي مخففاً من أسطورته الأفلاطونية ليكون بشراً مجلالاً بكل الصدف التي لم يحتسب لها. ففي هذه اللحظة ربما تُضجع ممرضة كسول في إحدى الغرف تتعامل مع جسد السبعيني العجوز وكأنه رقم عادي للموتى المستقبليين، ربما ينام طبيب الطوارئ الليلي غير مبال بحجم التاريخ النازف على بعد أمتار منه. فعندما سيدخلون صباحاً وقد فارقت الحياة جسد المريض رقم كذا، لن يلومهم أحد، فالموت أصبح مثل نزلة البرد، مثل الصداع النصفي، عادي بحكمة النصيب، مجاني بحكمة القدر، اختصاصي بالفقراء وبمن يدافعون عنهم. ربما ما لايعرفه الطبيب النائم أن خلف ذلك الجسد المسجى سابحاً في بركة دمائه متدثراً بمريول غرفة العناية المركزة، ذلك الجسد العملاق المتطاول المطروح في المسافة بين الحوض والتواليت، فيما خلف الجسد والروح التي فارقته يسقط تاريخ لن تذكره كتب التاريخ، تنطفئ إحدى شموع الوطن، تذبل وردة ويحترق شهاب في سماء البشرية. أحمد نبيل الهلالي الذي وزع ميراث عائلته الإقطاعية في أسيوط ـ وهو إبن نجيب باشا الهلالي آخر رئيس وزراء قبل ثورة يوليو 1952ـ وزع أراضي وعقارات عائلته على فقراء الفلاحين إيماناً منه بإشتراكية تبدأ قناعاتها من الشخصي إلى العام، فبقي سليل العائلة الثرية مخلصاً لفقراء وطنه مدافعا وحده عن كل قضايا العمال المصريين منذ نحو ثلاثين عاما، يدفع رسوم القضايا لفقرائهم ويواجه الدولة بالمجان، هو الخطيب المفوه في كل القضايا السياسية أمام القضاء المدني والعسكري، طالت مرافعاته التي يدرسها الآن حتى خصومه فدافع عن الإسلاميين كما دافع عن الشيوعيين، لذا لم يكن غريباً أن يصفه خصومه قبل أصدقائه بالقديس. هو النحيف المهذب المبتسم الساخر من نفسه المتواضع الصدامي. هو الرفيق بشير كما عرف بإسمه الحركي في حزب الشعب الشيوعي حيث تمرد ورفاقه على إنتهازية الحزب الشيوعي المصري المساومة. هو المنظر الأول الذي رصد الطبيعة الطبقية للحركة الإسلامية ووقف ضد شيطنة الإسلاميين الرادكاليين، والمقام لايتسع هنا لذكر باقي مواقفه السياسية التي لم تعرف يوما تراجعا في نضاليتها. ربما يكون الهلالي هو المحامي الوحيد في العالم الذي وقف يترافع في قضية سياسية بخطبة قانونية مفوهة أجبرت قضاة المنصة على إيداعه زنزانة الإتهام، فخلع روب محاماته ودخل قفص الإتهام في مشهد ربما تعجز السينما عن التعبير عنه بواقعية مثلما حدث. لذا لم يكن غريباً أن يجتمع كل الطيف الشيوعي المصري في جنازته التي خرجت منذ أيام من مسجد عمر مكرم. نبيل الهلالي كان يتمني حتى لحظاته الأخيرة تحالفاً واسعاً يتجاوز الخلافات الإيديولوجية العميقة بين أجيال وأطياف من الحركة الشيوعية المصرية ولن يجتمعوا ولو مرة إلا خلف نعشه المغطى بعلم مصر وبالهتاف الذي تردد لدقائق بين جنبات ميدان التحرير: عاش كفاح الشيوعيين، فيما تطل الوجوه المتسائلة من عربات النقل العام العابرة الميدان لتتساءل، ماذا تعني كلمة كفاح، وهل هناك من شيوعيين في مصر، وربما إستغرب بعض المارة أن يصلي كل هذا الحشد على شيوعي، خاصة إذا ما تقدم الصلاة المرشد العام للإخوان المسلمين. فالحشد الذي إلتهب بالنحيب كان يتقابل هذا الإسبوع للمرة الثالثة، فصيف يونيو الآتي مبكراً جمع الشيوعيين المصريين لنعي ثلاث أيقونات شيوعية مصرية، بدءاً من يوسف درويش اليهودي الشيوعي من جيل الحركة الأولى، المثقف والمترجم الشهير ورفيق هنري كوريل في لحظات مجد الأربعينات؛ أحمد عبدالله رزة أهم قيادات الحركة الطلابية المصرية في السبعينيات، الأكاديمي حامل دوكتوراه كامبريدج والمنظر والناشط المثير للجدل بأطروحاته الهامة حول تاريخ الحركة الطلابية المصرية وصاحب تجربة أول مركز بحثي لدراسات الأجيال خارج منظومة التمويل الأجنبي؛ ثم أخيراً القديس أحمد نبيل الهلالي. ثلاثة وجوه ربما ما يكسب خسارتها فداحة هو ما يمثله أصحابها من نماذج كلاسيكية لاخلافية نادرة على مستوي تاريخ الحركة الشيوعية، "أسياخ" كما يقال على الماركسي حين تختزله النقاء الثوري دون شائبة. المنظّر والقديس والحركي ثلاث صفات يبحث الماركسي عن صورهم المجردة الخالية بدرجة مذهلة من الشوائب فلا يجدها إلا في ثلاثي الموت هذا الصيف. فيما يتفرق الثكالى على أعزائهم، كنت تستطيع أن تلمح بين العيون المتورمة إحساساً باليتم المفاجئ، إحساساً بأن القدر ربما استطاع بهذا الاختطاف الانتقائي أن يثخن من جراح تلك الحركة، استطاع أن يطعنها في صميم تمثلها المثالي عن العالم، حين اختار ثلاثة نماذج ربما يصبح بعدها كل شيء أقل نقاء وأقل إخلاصاً، ثلاثة أفكار عن الشيوعي بعدها سيفقد كثيراً من بهائه.

مداعبة قارئ كسول قبل أن يتجوّل بالرموت كونترول


ربما أكون من القلائل الذين إستطاعوا الصمود لسنوات أمام الصيت الزاعق لرواية عمارة يعقوبيان، فلم أقترب من الرواية حتى ساعات من كتابة هذا المقال، محافظا على إمتياز عدم السقوط في براثن الدعاية الضخمة لها كرواية أو كفيلم. كان ينتابني إحساس غامض أمام حجم الصخب المصاحب لها سواء سلبا أم إيجابا، ولم أستسلم أبدا لنقاشات كثيرة فجرتها الرواية الحدث بعد تحولها إلى فيلم هو الأضخم إنتاجيا في تاريخ السينما المصرية. كان أكثر التعليقات طرافة، وهو ما جعلني أصبر طويلاً، ما قاله لي أحد الأصدقاء بأنك حين تقرأ الرواية تشعر أنك أمام مسلسل تلفزيوني كتبه أسامة أنور عكاشة، بمعنى أن كاتبها، ربما وهو يتحضر لكتابتها، إستحضر مصيرها كعمل سينمائي قبل أن تخط يده حرفا. لذا أقسمت من البداية أن أرى المعالجة السينمائية أولا ثم أتفرغ لقراءتها متخلصا من قانونها الأساسي وهو قدرتها الفذة على التخييل والمخايلة بأن الرواية تمس أشخاصا معروفين وحقيقيين، ومن ثم أفقدها قانونها الأساسي كرواية تستمد سطوتها في كونها عابرة للخيال مرة بقدرتها على النميمة السياسية والإجتماعية ومرة بقدرتها على نصب كمائن تجعلك تتخيلها في وعاء بصري، وهي الكمائن التي ربما إستطاع علاء الأسواني زرعها بحكمة مفتعلة بين ثنيات نصّ كثيرا ما لجأ خلاله إلى الإيهام بسينمائية تلك الأحداث والشخصيات، مرة بإستخدام طريقة أن هذه الشخصية تشبه ممثلا عجوزا يضع مكياجا.... أو عبر تقديم بعض الفصول بإفتراض أن ما يحدث مشاهد من فيلم ما. لذا كانت مشاهدة الفيلم أولا طريقة مبتكرة لحرق الإيهامات وقتل التخييل الذي إرتضاه الروائي كوسيلة وحيدة لإنجاح روايته.شاهدت الفيلم متخففا من أحلام الرواية الناجحة، وقرأت الرواية خالية من أي دسم مفتعل، وبقي لي بعد المشاهدة والقراءة كثير من الملاحظات التي تتعلق بموقع عمارة يعقوبيان الرواية والفيلم كظاهرة إجتماعية وثقافية وعلاقتهما بتحليل الخطاب الثقافي العام الذي تعيش مصر تحت ظلاله.البداية من الرواية التي لايمكن الحديث عن نجوميتها إلا بتحليل مناخ التلقي الثقافي العام لها، جاءت يعقوبيان في لحظة روائية إختصرت معالم الرواية المصرية الجديدة في تيار جديد يعلن سقوط أيديولوجيات الكتابة التقليدية، من إستعارة لهموم إجتماعية أو سياسية أو إيديولوجية، وتبصرها لأنماط جديدة تملك إحساسا تجريبيا يعيد طرح أسئلة التقنية والأسلوب، مرتكزة كذلك على هموم فردية تعاني مأزقا وجوديا كبيرا في لحظة مراجعة شاملة للأفكار الكبرى. فن الرواية وكاتبها صارا رغم ذيوع مصطلح زمن الرواية المبتذل، صارا متهمين ضمنيا بتعاليهما عن الواقع عبر إختيار لغة رمزية تحول الهموم الكبرى إلى مآس شخصية. أصبح هناك مناخ عام يشكك في الوظيفة التقليدية للأدب كمرآة عاكسة بشكل ميكانيكي لأوضاع المجتمع. ومع شيوع روح محبطة بالأساس لقيمة المثقف والكاتب في خضم عالم يمور بفظاعات السياسي والإقتصادي، تراجع التقييم الإيجابي لدور الأدب لدى قطاع تقليدي ظل لفترات مستهلكا للأدب في صورة الأدب المرآة. هذا الجمهور تحديدا والذي ظل يعادي التحولات الهامة في الرواية المصرية الجديدة بصفتها منجزاً نخبوياً متعالياً، هو من إحتفى بعمارة يعقوبيان منذ طبعتها الأولى وحتى الآن، فماذا قدمت الرواية الحدث لذلك الجمهور فأعادته لزمن إستهلاك الأدب؟الرواية من غلافها الخارجي تدعي وثائقيتها التي ترصد تطور التاريخ المصري الحديث مجسدا في شخوص سكان عمارة يعقوبيان، إنهياراتهم وقياماتهم، تحولاتهم الطبقية، ومن ثم توحي ومن البداية لقارئها بأنها ربما تحمل تفسيرا مغايرا لتاريخ آخر رسمي مشكوك فيه. وهنا طبعا لابد من بعض الإكسسوار الوثائقي الذي يعطي لبنية المفترض فيها المجاز الكامل بعضا من الملامح الواقعية. العمارة محددة الزمان والمكان تظهر بحكاياتها منذ الفصل الأول كحقيقة يردف عليها الراوي وقائع حقيقة تكتسب سمت التاريخ الحقيقي، وهو يغلف شخوصه منذ البداية كجزء من الحقيقة التاريخية التي أكسبها هنا لحما ودما. المدقق لذلك الإكسسوار الوثائقي سيكتشف على الفور روائية مبتسرة وشعبوية للتاريخ، فالثورة الملعونة في كل كتاب حولت العمارة ـ مصر ـ من قطعة من أوروبا إلي موطن للأوباش والصعاليك، والكاتب هنا لايستنكف عن أن يضع تلك الرؤى كحقائق غير قابلة للنقاش أو كنتيجة صافية وقشرية تضمن فخامتها من كونها مكررة ونمطية تعكس نمطا شائعا من تحسر قطاع كبير من المصريين على عصر ما قبل يوليو الذهبي مقارنا بأوضاع الوضع الحالي البائسة. هو إذن يراهن على رؤى يعتقد أنها مغايرة للتاريخ الرسمي فيما هي أضحت التاريخ الرسمي بقضه وقضيضه لدى معظم المصريين.كل ذلك مدعوما بمعلومات بحثية أرشيفية عن تاريخ العمارة وشخوصها يسقط القارئ الكسول ومن الضربة الأولى في فخ حكاية التاريخ الحقيقي الذي يحاول الكاتب كتابته عبر الرواية. وعلاء الأسواني مستلهما لتقنيات الدراما المتعددة الخطوط للمسلسلات التلفزيونية على شاكلة ملاحم ليالي الحلمية، يعبر بالقارئ إلي شط الإستراحة الذهنية الوثير لمتابعة رحلته التاريخية. هناك من البداية ذلك الحس التربوي المستتر والقمعي لمؤلف يرهب قارئه الكسول بالمعلومة والتحليل السطحي وبعجائبية الشخوص ليمهد له قراءة شيقة ومريحة.ماذا تعني القراءة المريحة والكسولة؟ تعني التوافق والتواطؤ الضمني بين مؤلف وقارئ إفتراضي على مجموعة من الحقائق. القارئ هنا ليس مدعوا للشك أو التفاعل الجدلي العميق مع ما هو مروّي، الحكاية لا تدفعه لما هو أبعد من التفاعل السطحي لقشرة وعيه. خطاب عمارة يعقوبيان هنا يتماس مع آليات الميديا الجديدة مثل برامج التوك شو والمناظرات الصاخبة، وعي الجماهير المسلوبة إلى التضاريس الخشنة الظاهرية للأفكار؛ وعي لن يشكك في ما يُقدم له ويتعامل مع منجز الأفكار لا مع جذورها؛ وعي جدير بقارئ ربما يترك الرواية ليغير بيده رموت الفضائية بينما هو يتسلي أمام كومة المكسرات الشهية، ويصح هنا التساؤل: كيف بنى علاء الأسواني تلك الرواية بتلك القصدية؟في إعتقادي الشخصي، ورغم أن الأسواني يؤكد دائما على كونه سكن العمارة المذكورة، إلا أن ما حركه للكتابة لم يكن بأي حال من الأحوال تلك البناية كفكرة مجردة. ما حركه للكتابة إحساس عبثي بضرورة كتابة تاريخ أو وجهة نظر مرتدية عباءة بناية واقعية. حرّكته مهمة كتابة التاريخ ووجهة النظر السياسية فألبسها ثوب عمارة يعقوبيان، مجرد مطية لرؤى نفسية وسياسية وأخلاقية تبحث عن عمارة. ثلاثة مواقف سياسية وإجتماعية مغلفة بروح أخلاقية رجعية، إستطاع توزيعها على ثلاثة خطوط درامية: حكاية ابن الباشا العجوز الذي يؤرخ لإنهيار طبقة ما قبل الثورة، حكاية ماسح الأحذية المليونير بعصر الفساد السياسي، حكاية المثقف المثلي جنسيا، ويتقاطع معها خط من أعلى سطوح البناية ممثلا في شخصية أبن البواب وفتاته. ثلاث حكايات يتداخل فيها السياسي مع الجنسي مع الديني ، فيالها من خلطة جماهيرية تشبه خلطة سينما المقاولات في ثمانينات القرن المنصرم. السياسي فيها يداعب نميمة السياسة حول الوزير القوي كمال الشاذلي، والديني منها يداعب الخيال الذي أرساه وحيد حامد سينارست ميكانيزمات الفقر والإرهاب في الدراما التلفزيونية والسينمائية ـ كان من الطبيعي أن يتحمس وحيد حامد شخصيا لإنتاج الرواية فيلميا ـ والجنسي منها يداعب شخصية صحفية واقعية هي شخصية الكاتب محمد سلماوي، ثلاث إستعارات مجتمعية مسكوت عنها ونعرفها جميعا وإن كانت تشكل خميرة للنميمة السياسية والإجتماعيةوالثقافية، وهي المداعبة التي لايمكن وصفها إلا بالإنتهازية الشديدة لإزدواجية مجتمع يعاني من شيزوفرينيا عميقة، تلاعب بها وعليها الأسواني بمهارة مبتذلة، مهارة إستطاعت أن تعيد جمهورا للقراءة المنتهكة الخيال، جمهورا تمنى أن تعوضه الرواية بخيال أعلى قليلا من الصحافة الصفراء عن كبته الساسي والثقافي. لذا لم يكن غريبا أن تعيد الرواية للقراءة جمهورا ربما كانت الرواية أول عمل يقرأه، جمهورا وجد فيها تنويعا ثقافيا يتماشي مع فضائحية الفضائيات والصحف الصفراء، ولما لا، والراوي إستطاع أن ينطق بصوته الكاره للجميع كل التناقضات، أن يتلون صوته بمهارة أخلاقية فيتحدث بالقرآن عند الحديث عن الجهاد مع الفتى الفقير، ويوصف ممارسات المثلي جنسيا بالأفعال الشائنة، ويتهدج صوته إرتعاشا مع مشاهد الجنس كأي مراهق. يتلون الراوي وفقا للصوت الذي يريد إسماعه للجمهور من متوسطي الوعي، يرطب على وعيهم بطرقه المباشرة وغير المباشر، يجعل إستشهاد الفتى الفقير إسطوريا بلغة أقرب لأدبيات الجماعات الإسلامية، ويتحدث عن المثلي جنسيا بمنتهي التحقير، ويحتقر الأقباط بأكلاشيهية تقديمه لنماذجهم، وكل ذلك يتم على الرغم من ركاكة اللغة وتفكك البناء في معظم الأحيان وإزدواج لغة الحوار بين عامية وفصحى دون مبرر بين ثنايا العمل. ويكمل العمل في النهاية بطريقة الدائرة المغلقة التقليدية، الفتاة الفقيرة تتزوج الأرستقراطي العجوز، والمثلي جنسيا يموت مقتولا على يد صديقه في فورة ضمير متأخرة، والمتطرف يقتل ضابط أمن الدولة ويستشهد بينما يسمع ترانيم وأجراساً وملائكة، فهل هناك نهايات أكثر من ذلك إقناعا للضمير الجمعي للقراء؟هناك نقطة أخيرة تتعلق بفساد النقد الثقافي في مصر، وهو الفساد الذي وحد قطاعات متعددة من المثقفين للعب دور البروباجندا لرواية متوسطة القيمة، فدهشتي تتضاعف عندما تضع في قائمة من هللوا للرواية كلا على طريقته أسماء مشهوداً لها بالذائقة المتميزة. البعض أبتز الدفاع عنها لصالح رؤاها السياسية، والبعض أبتزته الجرأة المفتعلة والكاذبة للرواية، والبعض هلل على الصدى الجماهيري المرتد للمبعيات منتصرا لعودة الرواية على جدول المستهلكات الشعبية، والبعض وهم كثر إستمرأ الخوض في أسباب تحول رواية إلى ظاهرة في المبيعات وكأنها عرض زائل، وبقيت الكتابات الجادة نادرة للغاية مع حالة الإحتفاء التي توجت في النهاية بإنتاج فيلم هو الأكبر إنتاجيا في تاريخ السينما المصرية. وهذا الأخير جدير بكتابة لاحقة، فما حدث فيه ربما يمثل نتيجة متأخرة لمقدمات الرواية التي راهنت على ما هو أدنى من طموح الرواية لصالح السينما، فجاءت معالجتها السينمائية طموحا أدنى من طموح الرواية، بمعنى آخر وقف علاء الأسواني على السلم، فلم يقترب من فن الرواية ولم يقترب من فن السينما.

فليعش وحيد حامد مرطّب مشاعر الجماهير المنافقة


في حواراته التي تلت عرض الفيلم بدا وحيد حامد سيناريست عمارة يعقوبيان المتحدث الرسمي باسم أسرة الفيلم، ليس فقط بسبب حجم مشاركته في إنتاج الفيلم مادياً، وهو صاحب حق تحويل الرواية ذات السمعة الى نص سينمائي، وليس كذلك بحجم المساهمة العائلية المباشرة ممثلة في إخراج ولده مروان للفيلم، ولكن قبل ذلك وبعده لأنه صاحب المعالجة الأكثر التباساً للنص الأدبي. وحيد حامد في صدارة المشهد آلة إعلامية ضخمة متفق على تأثيرها الفعال، كذلك هو برزخ آمن بين معارضي النظام ومؤيديه الذين وجدوا في الفيلم مناسبة سياسية صالحة لفتح كل الملفات. فالسيناريست الشهير لعب دوراً هاماً في المواجهة الأيدولوجية بفرعها السينمائي خلال مواجهات الدولة مع التيار الراديكالي الإسلامي منذ نهاية الثمانينات. أفلام مثل الإرهابي ومسلسل "العائلة" مثلاً أطلقا ما يمكن أن يكون تشهيراً حكومياً بشخصيات الإرهابيين. قدم حامد قراءة تخدم كل الأطراف مموهة بوعي اجتماعي وسياسي لتاريخ حركة الإسلام السياسي في الخمسين سنة الماضية. وحيد حامد يعود في "يعقوبيان" بمعالجته السينمائية الى ما هو خارج النص المتفق عليه ضمنياً عندما يعترف أخيراً بأن الإرهاب ربما يكون صنيعة الدولة الأمنية المستبدة حين يجعل طه ابن البواب يقتل ضابط الأمن الذي أمر بإغتصابه داخل أقبية مبنى أمن الدولة. لذا كان من الطبيعي أن ينال وحيد حامد أكبر حفلة ذم في تاريخه من صحف طالما تعاملت معه كنموذج لمثقفها الآمن. لكن يبقى السؤال المشروع يبحث عن إجابة: هل خرج وحيد حامد عن النص المتواطئ عليه، أم التزم حرفياً وربما غامر بتوازنات لحظة سياسية جرب فيها أن يلعب دور الناصح الأمين، مثله في ذلك مثل منتج فيلمه صاحب مشروع الحملة الدعائية للرئيس في انتخاباته الأخيرة؟ هذا الكلام، في ما هو سياسي وشخصي، ربما لا يصلح الاحتكام إليه إلا في سياق البحث عن إجابات في ضمائر وحيد حامد ومنتجه وقبل ذلك في دهاليز الصراعات الداخلية بين أجنحة النظام الحاكم في مصر، وهو جدير بكتابة أخرى. يكفينا هنا استيعاب حالة التسخين السياسي التي صاحبت منتجاً سينمائياً فانشغل الجميع بتأويلاتها دون النظر الى المنتَج من حيث هو فن ربما يحمل خطاباً سياسياً، لكن قبل ذلك هناك ضرورة لتقييمه وفقاً لمعياره الفني.يعرف الجميع أن هناك تصنيفاً كلاسيكياً لطرق الاقتباس السينمائي لعمل أدبي يقسمه الى ثلاثة أنواع، الأول هو الاقتباس النصي الذي يراعي العلاقات الزمكانية للنص الأدبي ويتعامل مع النص حرفياً، أي ينقل ما فيه من تتابع سردي وحوارات وبناء درامي كما قدمت في النص الأدبي؛ والثاني اقتباس روح النص بمعنى الحفاظ فقط على العلاقات الزمكانية مع بناء وحوارات وسرد يناسب السينما كوسيط مختلف؛ والثالث هو الاقتباس الاسمي حيث التناص بين الأدبي والسينمائي يقف عند حدود التسمية. عمارة يعقوبيان الفيلم ينتمي للنوع الأول، وغالباً ما يضطر سيناريست هذه النوعية من المعالجات الى اختيارها عندما يتعامل مع نص أدبي عصي على التفكيك أو المراوحة، وأحياناً يكون ذلك نتيجة سهولة النص نفسه وبساطته ما يدفع السيناريست الى التناص كاملاً معه، هو بذلك اختيار للتطرفات على تناقضاتها، السهل الممتنع أو الصعب المستغلق. وفي ما يخص يعقوبيان الرواية كان من الواضح ـ وكما أسلفنا في المقال السابق ـ أن بوصلة الكاتب علاء الأسواني هي من البداية السرد السينمائي القائم على الخطوط المتوازية والنقلات التي تشبه المونتاج، ومن ثم مثلت الرواية كنزاً لسيناريست إما موهوب أو كسول للغاية، موهوب ربما يحلق بمعالجته خارج التأطير الروائي فيكسب عمله إضافة جديدة، أو كسول يرتكن على ما في النص وحده من إمكانات درامية متاحة وسهلة. في اعتقادي، كان وحيد حامد من النوع الكسول الذي استسلم لما في نص الأسواني من دراما شكلية ربما يكون مبعثها الأساسي رسم الشخصيات في حكي تاريخي. نتحدث هنا عما يمكن تسميته معلومات تاريخية قدمها الروائي بأضعف التقنيات الروائية وهي الحكي الخالي من الدراما، وهي هنا ملامح يرسمها الروائي بحدة معلوماتية ليؤهل القارئ الكسول بطبعه لاستيعاب سلوك شخوص الرواية. يتبقى إذن أن تتحرك تلك الشخوص في مواقف درامية وحوارية لتنفجر طاقاتها، وهنا تحديداً نصب علاء الأسواني بضعف موهبته كميناً لمن يعالج روايته سينمائياً. فالمواقف الدرامية من حيث هي شخصيات تتحرك لممارسة فعل ما ضعيفة لولا اتكاؤها الحكواتي، والحوارات داخل النص الأدبي ضعيفة ومرتبكة ومختلطة اللغة، وكما هو معروف فإن الحكي عن الشخصيات وتاريخيتها ربما يصلح سينمائياً فقط في الهمس لأبطال المعالجة السينمائية كي تتلبسهم ملامح الشخصية قبل الفعل الدرامي فقط. ما يحكى داخل الأدب يظل أسير الحكاية لا أسير الدراما. فإذا ما وضعنا ذلك الى جانب موهبة صغيرة ممثلة في مخرج الفيلم مروان حامد الذي يتعامل مع كل نجوم السينما المصرية الكبار لأول مرة وهو ما يعقّد مهمته في إدارة ممثليه، لن يتبقى إذن إلا أن يقرأ كلاً من شخوصه كحالة منفصلة. كل الممثلين يتحدثون عن شخصياتهم في الفيلم، وكل يقدم شخصيته من أقرب خبراته: عادل إمام قدمها من مساحة شخصيته في فيلم السفارة في العمارة، ونور الشريف ربما أغرته سمية الخشاب ليذهبا سوياً في أدائهما الى مسلسل الحاج متولي، وهكذا ذهب كل من أبطال الفيلم الى أقرب مسيرة متجاهلين أن الفيلم ربما، باشتباك خطوطهم، يمثل مسيرة منفصلة لعمل جديد، فسقط الجميع في شبهة أعمال أخرى.معالجة وحيد حامد، فيما هي تقارب السطح الخشن لأفكار علاء الأسواني المسطحة بالأساس، لم يجد اتكاءً في حجم الخطوط المتوازية الطويلة والمملة في الرواية إلا أن يقص ويلصق من عنده بعضاً من خطوطها، ليس بتكثيف مللها الروائي ولكن بميكانيزمات هي أقرب الى الارتجال، تارة يسرع الخط الدرامي بصورة غير مبررة كما فعل مع شخصية طه ابن البواب، وتارة يلخص شخصية في مشهد ضعيف كما في شخصية ملاك وأخيه أسخريون، وتارة تعجبه شخصية فيمطّ مشاهدها دون دواع إلا لأنها شخصية عادل إمام أو يسرا، وأخيراً عندما يضبط شخصية في إيقاعها المتزن روائياً تفضحه الدراما الروائية الضعيفة مثلما لدى شخصية حاتم رشيد أو بثينة ساكنة السطوح، ولم تكفه حتى الثلاث ساعات الطويلة التي تشكل زمن الفيلم لحل تلك الأزمات. وعندما لم يخلص لحرفية الاقتباس من الرواية كان ارتجاله إما سياسياً أو أخلاقياً. ولنتأمل مثلاً كيف بستر وحوّل شخصية كمال الفولي نموذج الفساد السياسي الى حالة فردية. في الرواية وبعد أن يحاول مليونير شارع سليمان باشا التنصل من دفع نسبة القوى السياسية الفاسدة يطلب مقابلة ما أسماه الأسواني الراجل الكبير، وبالفعل يذهب لمقابلة الشخصية المجهولة في قصره فيحدثه عبر ميكرفون مهدداً ومتوعداً في مشهد روائي أقرب لمغامرات المغامرون الخمسة. إلا أن وحيد حامد يغلق مجال الثرثرة السياسية الفضائحية لذلك الخط عندما يجعل كمال الفولي هو من يهدد ويتوعد وينفذ تهديدات الشخصية الكبيرة، فكيف يحمي وحيد حامد فيلمه من بطش الشخصية الواقعية التي يلسن عليها الأسواني روائياً؟يسوق وحيد حامد تبريراً ساذجاً بحريته في التعامل مع النص عندما يواجهه هذا السؤال في حوار صحافي، أما ثاني الانحناءات فتتمثل في المصير الدائري الأخلاقي لشخصية المثلي جنسياً. المعروف أن الشخصية الروائية التي أبدع الأسواني في وصفها بعبارات تحقيرية أخلاقية في أكثر من موضع تنتهي بعقاب إلهي، جندي الأمن المركزي الذي يعاقبه ربه لعلاقته المثلية بحاتم رشيد حين يموت ولده، ينتقم لنفسه وأبنه بقتل الصحافي الكبير المثلي جنسياً في خاتمة دائرية تداعب أخلاق القارئ الذي لن تهدأ ثائرته إلا بمقتل المثلي جنسياً. هذه المعالجة تتأرجح عندما نلاحظ أن الأسواني نفسه وعبر تفاصيل عمله يتحدث في بعض المواضع عن احتياج حاتم رشيد للاستقرار العاطفي بعد فترة من التخبط في علاقات جنسية موقتة، وهو ما يكسب شخصية حاتم شيئاً من التعاطف خصوصاً إذا ما أبدع الأسواني في تحويل مأساة فقدان شريكه الى مأساة حب أجهضته الظروف. هو هنا يؤكد على أن ما جمع بينهما علاقة حب حتى ولو كانت من طرف واحد هو حاتم رشيد، ورغم ذلك لم تكن كل تلك التفاصيل كافية للتغطية على الموقف الرجعي والتحقيري للمثليين كما يظهر في لغة الأسواني الوصفية أو في دائرية مصير الشخصية التي تنتهي بمقتل المثلي. المصيبة أن وحيد حامد ربما يكون قد استكثر على الشخصية حتى تلك الفقرات الإيجابية فنجده يغلق ملف علاقتهما بمشهد فلاش باك يؤرخ فيه لاغتصاب حاتم رشيد كضحية لشذوذ، ليس باختياره ولكن بإهمال والديه، ثم سرعان ما يحاول اصطياد فريسة جديدة من أحد الشوارع ليكون مقتله مجانياً أكثر مما هو في نصّ الرواية. القتل المجاني من عابر مجهول هو المصير الأخلاقي الأكثر رجعية لدى وحيد حامد للمثلي جنسياً، نازعاً عنه فكرة الحب التي هومت حولها الرواية وكأنه يرفض الشرف الوحيد للأسواني. لذا كان من الطبيعي أن يستحق وحيد حامد كل هذا التصفيق من جمهور كل الحفلات في مشهد القتل المجاني. شكراً لوحيد حامد مرطب مشاعر الجماهير المنافقة الأوحد.لكن ما هو وضع الفيلم خارج مجال الاستعارات بين النصين الأدبي والسينمائي؟ هنا لا بد من الإشارة الى المجهود التقني الشكلاني لإخراج مروان حامد. الفتى الذي يدخل عشرينياته بأكبر ميزانية في تاريخ السينما المصرية لم يبخل على فرصته التاريخية الثالثة ـ الأولى كانت انتاج التلفزيون لفيلم روائي قصير له بعنوان "لي لي" لكن بانتاج ضخم وهو ما زال رضيعاً بمعهد السينما، والثانية بإخراجه فيلماً عن حياة الرئيس مبارك شخصياً في حملة الرئيس بانتاج منتج عمارة يعقوبيان الكارتل الإعلامي عمرو أديب ـ لم يبخل ننوس عين النظام الحاكم بكل البهارات الأميركية السينمائية التي تعلمها في مدرسة أستاذه التجاري الشهير شريف عرفة، التصوير المبهر تقنياً، والإضاءة التي تشعرك أنك في لوس أنجلوس، والموسيقى الصاخبة التي كثيراً ما غطت على درامية القليل من المشاهد الناجحة، استعراض اخراجي مبهر لمن يتعاملون مع السينما بمنطق فغر الفاه. لكن أين الفيلم؟ الفيلم مثلاً يتحدث عن عمارة يعقوبيان كحيز مكاني وموقع جغرافي، لم نشاهد العمارة كبنية تشكيلية إلا لماماً وفي مشاهد واسعة ومكررة. لم نسمع صوت شوارع وسط البلد، لم نلحظ في أي مشهد أن هذه الحكايات تدور في مكان واحد حتى ولو عبر مشاهد الباساج الشهيرة التي تتقاطع فيها الشخصيات. وإن كان علاء الأسواني نفسه قد فشل روائياً في ذلك، فإن الفيلم كرسه بصرياً. بدا الفيلم، كما الرواية، وكأنه يدور في ثلاث علب ديكورية وسطح مكشوف أشك في أنه سطح حقيقي، لذا يمكن إذا ما اقتطعنا الخمس دقائق الأولى الأرشيفية، والتي يتحدث فيها صوت يحيي الفخراني عن تاريخ العمارة مدعوماً بشريط صورة من أرشيف القاهرة في الثلاثينيات. إذا ما دخلت الفيلم متأخراً ولو لخمس دقائق لن تعرف أن هذه الأحداث تدور في عمارة تسمى يعقوبيان. هل تتذكر هنا عزيزي القارئ ما تحدثنا به في مقال آخر عن أن علاء الأسواني ذاته وقع في نفس الفخ؟ فخ أنك تلبس العمارة كحيز تلك الرؤى السياسية والاجتماعية الجاهزة والتي تبحث عن ثوب روائي. نفس الفخ سقط فيه مروان وحيد حامد المخرج المنبهر بتحابيش السياسي والديني والجنسي في صيغة روائية. هل يشبه الفيلم الرواية في ذلك التماهي الساذج مع تحليل سياسي واجتماعي مسطح للوطن؟ علاء الأسواني، وهو يفعلها روائياً، كان يراهن على ذلك الهوس الشعبي بالنميمة السياسية، وقد التقطت كارتيلات إصلاحية اقتصادية داخل نخب النظام تلك الرسالة وأعادت تشفيرها لما يصلح ولو قليلاً وجه نظام قبيح، آن لجناح منه أن يتفاخر، ولو بالقبح، بديموقراطية ساذجة، تلعب نفس الدور المعكوس لصحف سياسية صفراء تلعب هي الأخرى على تفريغ معالم الأزمة في صورة جعجعة لكن بلا طحين. السينما هنا نصف راديكالية وبوعي ينفس عن أتون مجتمع يستعر. يدخل المصريون عمارة يعقوبيان الفيلم ليشاهدوا، بمازوخية رنانة، ذلك المزيج من تعذيب الذات. ينبهرون بالمثلي جنسياً الذي لم يخرج يوماً من نكاتهم السرية، وينتقمون منه بالتصفيق الحاد. يشاهدون الإرهابي وهو ينتقم لشرفهم المسلوب في أقسام الشرطة دون أن يتجاوز ذلك استعارة الجو المكيف لصالات السينما. يتألقون وهم يشاهدون فتاة فقيرة تقبل أن يستمني عليها صاحب العمل ثم تقبل بالحل الانتهازي بالزواج من عجوز متصابٍ، يبررون للحاج المليونير انتهازية شعارها "عشان ما نعلي... نعلي.. نعلي.... لازم نطاطي... نطاطي.. نطاطي"، ومثلما تبقى المصائر في الفيلم؟ الرواية مستمرة، ستبقى مصائرهم سائرة. لا قلق ولا إحباط. إنه مجرد جُلد جماهيري بطيء. جلد تكلف 25 مليون جنيه شارك فيه كل نجوم الوطن، من أجل أن يبقى الوطن... مجرد كلاشيه ساخر ربما يؤرخ ذات يوم لمجتمع أدمن تاريخياً الكذب على نفسه... فبات يكذّب ويصدق نفسه.

حرب بعيدة تسمح برقصة أخيرة على قدم واحدة




شهر وخمسة أيام مرت على لبنان بزمن مضغوط وكثيف. الحرب هذه المرة كان لها إيقاعها الخاص وزمنها الخاص، زمنها الحقيقي الممطوط لملايين أصبحت السماء بالنسبة لهم موطناً مفاجئاً لموت ربما ينساهم هذه المرة. لكن ليست هناك اي ضمانة أن يكرر الموت نسيانه. زمن الحرب النفسي أقسى كثيراً من زمنها الفيزيقي، والمسافة عنها، لها بعداها النفسي والفيزيقي، زمنها المنصرم سريعا في أحد شوارع القاهرة الضجرة من حرارة الصيف ومن انتهازية حكومة نظيف التي كوت الجميع بارتفاع الأسعار في عز سعار الحرب على لبنان. ربما يختلف زمن الحرب تلك عن زمنها في إحدى حارات مراكش التي لن تخرج لحظة من بين جنباتها القشيبة في انتظار موسم سياحة واعد في تظاهرة من أجل بيروت البعيدة. حتى القاهرة الأقرب فيزيقياً التفت كعادتها لتحول الحرب الدائرة إلى شأن مصري صميم، في مصر التي كان زمنها الخاص يعاني من رتابة نهاية متوقعة لفاعلية سياسية استمرت لمدة عامين سميت بالحراك السياسي الكاذب. كان الإيقاع يتجه نحو تجميد جديد لزمن تفاعلاتها الصاخبة. ضجر النظام السياسي ونخب المعارضة من لعبة القط والفأر الشهيرة، وخرج الجميع لاستراحة في فواصل المادة الإعلانية الصيفية. الزمن الذي قذفته الحرب في وجوه المصريين بدا كأنه فاصل من العرض القادم الذي ربما يدفع البعض للانتباه لكنه لن يجبرهم على الجلوس في مقاعدهم مشدوهين إلى الشاشة. هذه الأخيرة تحديداً حملت لهم الحرب على أطباق الستالايت كفاصل جدي بين متابعة لاهية لأفلام الصيف ـ بالمناسبة رغم كل ذلك الضجيج والحرب والدمار ذهب الملايين من المصريين إلى سينمات الصيف وتبرعوا لكتكوت ووش إجرام بآخر ملايين معهم ـ وللنظام السياسي الذي أظهر منذ البداية بيعته الشهيرة لفيلم الموسم عندما حمل مسؤولية ما سيحدث إلى حزب الله. كان هذا النظام يخرج برأسه تماما من خيبة السقوط فيما يزعج إيقاعه الخاص قد حوَّل القضية إلى ركن ضيق حين جذب عيون محالفيه وخصومه إلى حارة ضيقة جداً في حوار الحرب. الجميع جري يولول على الموقف المصري المبكر الذي وجدوه يقدم لبنان على طبق من ذهب إلى إسرائيل. ما لا يعرفه البعض أو يضعونه في حساباتهم أن إسرائيل نفسها لم تضع في حساباتها مواقف مصر والسعودية والأردن حين تحركت لضرب لبنان، وافتراض غير ذلك يراهن على وهم مؤكد بأن هناك ثمة قوى عربية كان لابد لها من استئذانها. إسرائيل ليست في احتياج إلى استشارة كورس عربي هي الأدري بحساباته، حساباته ذات اتجاه واحد وهي حسابات بسيطة جميعنا يعرفها. كل دولة سحبت من هواء الأزمة لهيبها الأقليمي وحولته إلى شأن داخلي، شأن يخص حدودها الحقيقية. النظام المصري حدوده الحقيقية المقلمة والمشذبة بعناية لا تسمح بالتشويش على حجم إنجازه في تجميد درجة الصراع الداخلي عند درجة الموت الأكلينيكي. نخب معارضة مجهدة من موسم سياسي طويل ومحبط أعادها الموقف المصري إلى حلبة الشجار حول دور مصري مفترض، نخب لم تستطع حشد ربع قواها في المظاهرات المعدودة التي حاولت تنظيمها إعتراضا على الحرب. كان ما يحركها ليس حجم المجزرة التلفزيونية المبثوثة مباشرة على فضائية الجزيرة، بل، بالأساس، محاولة كسب نقاط على النظام السياسي. هي معارك القط والفأر التقليدية بين عشرات المتظاهرين الذين لم يحملوا أعلام حركة كفاية هذه المرة بل صور السيد حسن نصرالله يحاصرهم الآف من جنود الأمن المركزي، فيما حركة المرور لم تتعطل هذه المرة فالناس يمصمصون شفاههم من خلف نوافذ الباصات فيما هم يرفعون الدعاء كالعادة على إسرائيل. شارع يتعامل بما هو أقل من البرجماتية إن وجد هذا التصنيف، لم يؤثر حتى فيهم شلوت رفع الأسعار من نظيف. إرتفع سعر البنزين ولم يعترض راكبو الباص إلا على رفع الأجرة وبنصف مقاومة استوعبوا شجاراتهم المملة مع سائق الميكروباص ورضخوا في النهاية. النظام تفرغ هو الآخر إلى سحب الجميع على أرضية نقاشاته المضمحلة سائلاً: هل تريدون أن ندخل في حرب مع إسرائيل، وسؤال كهذا سيشل الجميع عن التفكير للحظة: من منا يريد الحرب؟ أي استطلاع محايد بين المصريين الآن سيثبت أن تشدد النظام المصري على سؤاله يبدو منطقياً لدولة يظهر هرمها السكاني ميلاً واضحاً لأجيال لم تسمع إلا عن السلام.سيكولوجيا، يبدو المصريون أبعد الشعوب الآن عن التفكير في أي معنى يرتبط بقيمة جماعية، مصير جماعة بشرية ضخمة المصالح والاختلافات تفتقد الثقة بأي نقطة إتفاق جمعي. المصريون، وهم يهللون للسيد حسن نصرالله، هم أقرب إلى مَنْ يدفع البلاء عن نفسه. فنضال السيد حسن نصرالله هو التعويض الزائف عن استراتيجية أضعف الإيمان. لن تجد بذلك تناصاً بين شعب ونخبه وسلطته كما تجده لدى المصريين. الجميع يعرف أن التاريخ والجغرافيا تتآكل ليس فقط بحكم متتاليات التأقزم الأقليمي الذي بدت فيه مصر في خضم المعركة الأخيرة، لكن أيضاً بسبب استحالة عودة عجلة التاريخ والجغرافيا إلى الوراء، وما بقي من تلك المهابة أصبح محل تشكيك وتندر. فحتى في بيعة الحرب تأخر الموقف المصري عن مثيله السعودي تأخر خطوة من أراد أن يكون الثاني أو الثالث في الطابور. النخب المصرية المتباينة والمتحاربة على صراع المواقع كانت عيونها جميعاً معلقة على الداخل خلال المأزق اللبناني. وبما أنها نخب صحافية، أي تدير حواراتها بمداد كاتبيها، كان لبنان الحاضر بسمائه المفتوحة وباطن بناياته المتهدمة وعويل أبنائه على الشاشات بعيداً على رغم دمه المسفوح إعلامياً. في ما عدا الوفد المصري الجامع للشامي والمغربي كما يقول المصريون، لم نرَ مبادرة حقيقية من مثقفي مصر أو مجتمعها المدني للذهاب إلى بيروت المحاصرة كما فعل البعض في السبعينات، تحدثوا عن ألف مبادرة وألف قافلة دون أن يصل أحد. الحرب كانت بعيدة وإعلامية وكذلك المواقف والمبادرات. الحرب كانت حاضرة فقط صحافياً. تبادل الجميع، كل من موقعه، التراشق بالمواقف. من أيد السيد حسن نصرالله أيده كفكرة مجردة، ومن دافع عن الموقف الرسمي دافع عما يخص موقعه في السلطة. حتى اليسار نفسه خرجت منه إحدى أكثر النكات السياسية فجاجة. تيار حديث اسمه اليسار الديموقراطي تحدث أحد منظريه عن الأصول الطائفية لحزب الله وموقفه من تصفية كوادر الحركة الشيوعية اللبنانية، وكأنه يجذر بتحليلاته، والتي هي أولى باليسار اللبناني لا باليسار المصري، عداءه لحزب الله. كتب ذلك المنظر الكبير عن حزب الله كفصيل فاشي جهادي وكأن المسطرة التأويلية له تبحث عن موقع في حرب المناظرات الفكرية، أو كأن جماهير حزب الله المصرية الخارجة كالجحافل ستتوجه للمعركة وعليه أن يقدم تحليله الفذ لها. أما آخر الفقرات الكوميدية فكانت الرسالة التي وجهها الزميل حمدي أبو جليل عن ضرورة الاستسلام لإسرائيل إسوة بحضارات بدأت تألقها بعد استسلامها مثل اليابان وألمانيا، وكأن لبنان هو اليابان أو ألمانيا ويملك هو قرار إستسلامها. وفيما بين الكوميديا والكوميديا، انبرت الصحف الرسمية وانبرى كتّابها بالترويج للرواية الإسرائيلية عن تهديد حزب الله وكأنهم خبراء بالإيباك، في حين والى من والى السيد حسن نصرالله على طريقة عنوان سوقي لصحيفة الدستور المستقلة التي ابتذلت القضية لمستوى النكات الشعبية حين عنونت عددها بمطلع نكتة شهيرة على لسان السيد حسن نصرالله: آه يا منطقة ما فكيش راجل، وهو العنوان الذي على ما يبدو طور به الرئيس بشار الأسد خطابه لاحقاً عندما تحدث عن أنصاف الرجال. بإختصار بقي الزمن النفسي للحرب خارج لبنان زمن انفعال رمزي مبتذل، لا اثر فيه لترجمة انفعال حقيقي من موقع المسؤولية. بقي الجميع مخلصا لفكرة أنها طالما تدور بعيداً وبعيداً جداً فإن المسرح مكشوف للاستعراض، الاستعراض على قدم واحدة وفي المكان نفسه دون خطوة للأمام أو أخرى للخلف، فالمواقع لن تتغير، سيبقي لبنان هو لبنان وسنبقى نحن من بعيد قادرين على تحويل مأساته إلى فاصل إعلاني كئيب بين فيلمين كوميديين.

في عودة مفاجئة لمبدع ثالث نقلات الموسيقى المصرية


ما رأيك في فيلم تسجيلي عن حميد الشاعري وموسيقى الثمانينيات؟ سؤال تجرأتُ بطرحه على نحو عشرة أصدقاء مختلفي المشارب والأهواء، سؤال كنت وأنا أطرحه أخشى من ردود فعل متباينة تميل في أغلبها إلى تسفيه القول. لكن المفاجأة كانت اقتراح ثمانية منهم أن يعملوا في الفيلم وإثنان طلبا الاستضافة على الأقل. السؤال كشف لي أن هوسي الشخصي بتأريخ ثمانينيات القرن المنصرم، وقد بدت الآن تاريخاً يمكن الحنين إليه، هو هوس مبرر، فهي أكثر الفترات غموضا عوضاً عن كون ذاكرتها لا تستطيع أن تقدم ما كان من ألق السبعينيات ومن قبلها الستينيات. السبعينيات على ما يبدو كانت في الذاكرة الجمعية أمّ المعارك والانتصارات والهزائم، وما بعدها لا يرقى بأحزانه وكآباته وظلام عالمه أن نحنّ إليه. في ما يخصنا، نحن الذين يدخلون أواسط الثلاثينيات بكل مشمشها، الثمانينيات كانت فترة التمردات الصامتة، التي لم تغال في صدامياتها أو تبشيرها بعالم جديد. كانت فقط تراهن على الوقت لتؤكد مفصليتها حتى وإن لم يعلُ خلالها الصوت بأن هناك ثمة انقلاب حادث.في الموسيقى مثلاً، وهي هنا حالة القول، نستعيد المشهد من بداياته لعلنا نستطيع أن نؤرخ لمفاصل ونتؤات. فعندما صعد الشاب حميد الشاعري مسرح كلية التجارة بجامعة الأسكندرية عام 1979حاملاً غيتاره الإسباني بعد أن ارتحل من ليبيا إلى مصر، حاول أن يغني في البداية ما يمكن تسميته بأغاني المرحلة، أغاني الثورة التي شاعت في تلك الفترة، لم يقبلها جمهور المسرح من الشباب لذا بدأ بدندنة بعض من أغانيه التي كان قد سجل خمساً منها في ليبيا وقدم بها عله يجد من ينتجها، بعد صفرات الاستهجان هدأت القاعة وهي تستمع لصوت مبحوح وناعم يغني بإيقاع بدوي على غيتار أسباني أغاني عن العشق والاغتراب والمدينة القاسية. من هذه اللحظة تبدأ نهاية مرحلة وحدث ما يمكن تسميته بالنقلة الثالثة في تاريخ الموسيقى المصرية، ودون أن يتحمس البعض لردود تسفيهية مسبقة. نعم هنا لا بد من الاعتراف بأن الموسيقى المصرية في القرن الماضي عرفت ثلاث نقلات تاريخية، بمعنى أن الموسيقى بعدها لم تبقَ الموسيقى أن تبقى كما كانت.النقلة الأولى كانت لمبدع أول موسيقى مصرية خالصة الشيخ سيد درويش، والثانية كانت في اكتشاف الجذور الشعبية للموسيقى المصرية على يد سلطان الشجن بليغ حمدي، والثالثة كانت نقلة تقنية ومزاجية لما يمكن تسميته بموسيقى الجيل، أو ما أبتذل إصطلاحه لفترة تحت عنوان موسيقى الموجة الشبابية والتي دشنها موزع وملحن ومطرب ليبي إسمه حميد الشاعري بداية الثمانينيات. فكابو ـ كما يسمى الشاعري بين مجايليه وأصدقائه، خريج هندسة الطيران، كان مهووساً بالموسيقى الغربية وآلتها الفردية الأشهر الغيتار. وهو حين قدم إلى وطن أمه لم يكن المشهد قابلاً لتلك النقلة بهذه السهولة. استفاد كابو من اختراع جديد سيسمى لفترات بأسمه وهو مكسر التراكات المركبة، نقلة تقنية كان هو أول من استطاع أن يضع لها قانوناً خاصاً في الخريطة السماعية الجديدة، خريطة خلت فجأة من أسماء العظام في عالم الطرب التقليدي بموت الأسطوات حليم وثومة، وإن ظل المزاج السمعي لأجيالهما يبحث في وردة ونجاة الصغيرة وشادية عن روائح الزمن الجميل كما يحب مهاويس نوستالجياته. حميد الشاعري صانع النجوم القادمة كلها كان مطرباً شجياً لجيل كانت الموسيقي الغربية قد اختطفته وهو حاول البحث عن معادلة عربية لها. ربما لم يتح للمصريين في تلك الفترة الاستماع لما هو خارج سوقهم السمعي لتجربة موازية وإن كانت أقل تجارية وأكثر ميلاً إلى الجاز كما قدمها زياد الرحباني. حميد مثّل تلك الصلة بين الغيتار الأسباني والناي والايقاعات الجديدة للسلم الخماسي، لذا كان من الطبيعي أن يختطف أبناء جيله الغنائي في باكورة أعمالهم، وزع لمحمد منير وأحمد منيب وهو الأجدر بفهم ايقاعات السلم الخماسي النوبي. كذلك كان غيتاره والذي ستسمي بعض كورداته المسجلة لدى شركة عالمية مثل رولاند بإسمه. كان لهذا الغيتار الأسباني الفضل في تقديم تجاربه الغنائية الأولى في ألبوماته، وهي الألبومات الأولى له في أوائل الثمانينيات لمطرب غير مصري تتحمس له شركة واعدة حملت تجربته وحملها معه إلى أن تصبح أهم شركة مصرية في هذا العقد، والمسؤولة الأولى عن جيل كامل من المطربين وهي شركة سونار لصاحبها هاني ثابت الأب الروحي لموسيقى الموجة الجديدة والأغنية الشبابية.في سونار، ومع إيمان هاني ثابت بضرورة الإنفتاح على الموسيقى الغربية، بدأ حميد مشواره الأهم وهو صناعة نجوم الصف الأول في مصر: محمد منير، علاء عبد الخالق، منى عبد الغني، حنان، محمد فؤاد، أميرة، مصطفى قمر، هشام عباس، خالد عجاج، أنوشكا، سيمون، أيهاب توفيق، حكيم، محمد محيي، علي حميدة صاحب أول مليون شريط مصري. حتى عمرو دياب لم يعرف نجوميته إلا على يد حميد بادئاً من ألبومات "أيامنا ويا عمرنا". لم يظهر نجم في الثمانينيات إلا وكان حميد هو سبب نجاحه، إما بتقديمه في أغنية مشتركة أو بالتلحين أو التوزيع وهو أضعف الايمان. التوزيع كان الثورة الأولى له حتى أن مهندسي الأستوديوات ظلوا لفترة طويلة يعملون بخرائط حميد الشاعري. موسيقياً كان أول من أدخل الغناء البدوي للقبائل المصرية الليبية إلى خريطة السمع المصري. كنا كمراهقين نحفظ الكلمات الصعبة وغير المفهومة كما نحفظ أعمال جورج مايكل والبينك فلويد، وهو الصوت الأول الذي أدخل مصطلح الحالة لقائمات تفضيلاتنا للغناء. صوته ليس قوياً بل هو جميل بضعفه، وهي الصفة التي سنمدها على المئات من بعده، هو حالة من الحزن والشجن لم نعهدها في الغناء من قبل. ألبومات مثل "حكاية وجنة وشارة وكواحل"، ربما كانت معنى الغناء الرومانسي الأول بإيقاعات الروك والريجي والخماسي والمقسوم، وهذا الأخير تحديداً كان هو ملكه المتوج. ربما يحمّله البعض مسؤلية سجن الغناء المصري الحديث في خانة المقسوم الراقصة، لكن ما لا يعرفه الجميع أن صاحب الوصفة ليس مسؤولاً بالكامل عن سوء استخدام وصفته إن هي تحوّلت إلى هوس للطامعين في نجاح سريع. والدليل ألبومات حميد نفسها التي تتنوع بها الأيقاعات ودائماً ما تكون الأغنية الهيد ـ وهذا المصطلح أيضاً لم يظهر إلا مع حميد ـ من أيقاع مختلف.هذا الهوس بالتوزيعات الجديدة هو ما دفعه أوائل التسعينيات وبعد أن رسخ للمشهد الجديد، إلى مراجعة تراث الغناء المصري الكلاسيكي بوجهة نظر ايقاعية وتوزيعية جديدة. فعمل ألبومات وزع بها أعمال شادية ومحمد فوزي وفريد الأطرش وعبد الحليم، وإن كانت تلك التجارب قد فشلت بعد أن سجن تجربته في ايقاع المقسوم الذي أصبح بصمته الوحيدة. لكنه عاد بصرخة السبانش مع عمرو دياب في ألبوم "حبيبي يا نور العين" ليحقق عمرو إسطوانته البلاتينية والورلد ميوزيك أوورد. لكن المطرب كان قد اختفى في تلك الفترة ليحل محله الموزع وصانع النجوم. لماذا اختفى حميد؟ لا أحد يعرف. المؤكد أن التنويعات الصوتية التي أشرف على تقديمها ربما جعلته يزهد في الغناء إلا في مناسبات محددة (أغنية عيني مع مصطفى قمر)، أو ربما أكلت عجلة السوق الذي أبتدعه مساحته كمطرب بعد أن تحول عالم الكاسيت إلى صناعة كان هو رائدها وحان وقت تقاعده. أو أخيراً لأن معادلته الناجحة حتى كموزع استطاع تلامذته أن يطوروها، لم يختفِ الموزع نهائياً. بقي كما هو محاولاً كل سنتين أو ثلاث سنوات أن يُظهر موهبة جديدة لكنها ليست بحجم الجيل السابق. لكن لماذا نتذكر حميد الآن؟ السبب كان البحث في ذاكرة لا تجد من يؤرخها، ذاكرة ربما لن يتسامح كاتبوها المقبلون مع مسؤولية حميد الشاعري عما يمكن تسميته انهيار الذوق المصري الغنائي. ذلك إن وجدت من يكتبها بحياد، ذلك الحياد الذي لن يستطيع فيما هو يدعي توثيقيته أن يتجاوز أسماء من قدمهم حميد وكان صانع نجوميتهم الأول. ربما سيتعالى بحس من الشفوينية وإدعاء لا تاريخية تلك المرحلة ومبدعها الأهم، لكن ما هو الحال وقد أصبح الغناء شاء أم أبى سوقاً كبيراً لم يستطع أحد معرفة تاريخه الأساسي. كيف يفسر ذلك البِشْر الذي لمع في عيون جيلي ممن تركوا السمع عندما عرفوا نبأ عودة حميد في ألبوم روح السمارة فذهبوا ربما لأول مرة منذ سنوات لمحلات بيع الكاسيت يسألون بلهفة عن كابو الجيل؟ كيف يفسر البائع اقتحامي الباسم الذي طالما افتقدته منذ المراهقة تلهفاً وأنا أفتح علبة الألبوم لأعرف من بقي من رفاق جيلنا من الملحنين وكتّاب الأغنية؟ كيف يفسر المارون إلى جانب العربة دمعة العين التي ترقرقت حين سمعت "جيبولي أخباره... ورّوني دياره... ناري وإش جرى لي... إشتقتلها الليالي... حنيت ليلي ناوي... وعيوني سهارى..." أم أنه الفرح بأننا صرنا تاريخاً يمكن البكاء عليه؟ كنت أسأل أصدقائي بخجل، ففاجأتني الإجابة، وصرت خجلاً من الخجل فكانت كتابة.

تفكيك الخطاب الإرهابي على الشاشات


خلق الحادي عشر من سبتمبر بجلل بثه المباشر عبر مئات المحطات التلفزيونية في لحظة حدوثه، علامة فارقة في تعاطي العالم مع الحركة الإسلامية فقد نقلها حدثها الكوكبي الأول إلى مصاف نجوم الهواء، ليس فقط عبر تبوّء بن لادن ورفاقه مقدمة النشرات في كل شاشات العالم، بل بقدرة هذا الحدث على خلق شبكة جديدة من علاقة الجمهور التقليدي بما أعتبر لسنوات طويلة حديثاً يخص الجهات الأمنية وبعض الهمس المستتر بأخبار فلان الذي تم إعتقاله لأنه متدين. هكذا على الأقل كان تعاطي المصريين مع ما يخص متابعة أخبار الحركات الإسلامية. نتحدث هنا عن المواطن الذي ربما يسمع نبأ إعتقال أحد أقاربه في يوم ولا يعرف عنه شيئا لفترة قبل أن يقرأ قرار اتهامه في إحدي صفحات الحوادث. أخرج حدث 11 سبتمبر تلك الأيديولوجيا إلى حيز الخبر العاجل وتقارير المراسلين من عواصم بعيدة، وولّد إلى جوار ذلك كله حاجة ملحة لمنظرين مأموني العواقب يدبجون ساعات من البث بالتفحص والقراءة لكل ما تنتجه ميديا الحركات الإسلامية من منتجات كالبيانات والشرائط المصورة لعملياتها أو رسائلها المسجلة تلفزيونياً بغرض تعليقها على الأحداث. الحاجة باتت ملحة لخبير استراتيجي لتحليل تلك الخطابات الإعلامية. هكذا خلق السوق الإعلامي الناشئ وجوها جديدة تلعب دور مفككي الخطابات، التي وإن بدا معظمها مباشراً وفجاً في عدم إحتوائه على أبعاد تتجاوز كلماتها المجوفة والصاخبة القادمة من عصور قديمة، أصبحت تلك المنتجات مجال تمحيص وفحص وتدقيق ربما يصل في معظم أحواله إلى المبالغة في التأويل. المدهش بالفعل أن سيطرة الفوبيا الإسلامية والتي تبدو مبررة إن كان منتجها بعيداً وغريباً كما حال أميركا التي صحت ذات يوم على قادمين عبر المحيط لتحطيم أسطورتها، لكن الحركات الإسلامية، في ما يخص فضاءنا العربي، ليست وليدة اليوم أو يوم الحادي عشر من سبتمبر القريب البعيد. فمصر التي تشهد نضال تلك الفصائل منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً ـ تحديداً منذ حادثة الفنية العسكرية 1976 ـ لم تشهد ذلك البروز المدوي لمتخصصي شؤون الحركة الإسلامية. حتى مع صعود المواجهة الإسلامية المسلحة مع النظام مطلع التسعينيات تم التعامل مع تلك الشؤون من منطق أمني. فمتحدث وزارة الداخلية المصرية بقي ببياناته الموجزة صلة الناس الوحيدة بالحرب الدائرة في شوارع الصعيد، وبقي التلفزيون المصري مخلصا لذلك الأداء حتى مع شيوع حالة المحلل لشؤون الحركة اللإسلامية حيث يقتصد في ضيوفه على شخصية اللواء فؤاد علام الذي أصبح خبيرا في شؤون الحركة الإسلامية من موقعه الوظيفي كأحد قيادات أمن الدولة السابقين، والذي تطور تعذيبه لقيادات تلك الجماعات لمستوى تحليل خطابهم فجأة!! كان من الطبيعي ومع طول الخبرة المصرية مع الحركة الإسلامية أن يتبوأ المصريون تلك المواقع المتقدمة في تفكيك الخطاب الإسلامي وإن تلونت تلك المواقع مع تلون المواقف الإيديولوجية لأصحابها، وهي في نماذجنا الثلاث القادمة تلونات لاتخص الموقع الشخصي وإنما هي نتاج تفاعلات طويلة مع هذا الخطاب من مواقع تخص تاريخ الحركة الإسلامية في جدلها مع تيارات سياسية بعينها منتصر الزيات.. المتعاطف الوسيط لاتستطيع فصل مشهد الحرب التي جرت أوائل التسعينيات بين النظام المصري والحركات الإسلامية دون أن تضع في مقدمة مشهده محامي الجماعة الإسلامية منتصر الزيات. فالمحامي الأشهر والمتحدث بالصوت العدلي بإسم المتهمين في معظم القضايا الشهيرة منذ أوائل التسعينيات عُرف كعضو متوسط في "جماعة الجهاد" التي نفذت إغتيال السادات وإن بقي إبن خلية أسوان بعيداً عن الضربات الموجعة التي طالت التنظيم بعد نجاح محاولة الأغتيال. فكان ممن حكم عليهم بأحكام مخففة ـ عام ونصف ـ واندمج في ما تلا ذلك في دور المدافع عن قيادات فصيلي الحركة (الجهاد والجماعة الإسلامية)، بالإضافة لنشاطه البارز في نقابة المحامين التي شهدت بحراكه إدخال النقابة المعروفة بميلها القومي في عصرها الإسلامي الأول. تحرك الزيات كثيرا كواجهة إعلامية وصوت للجماعات الراديكالية وإن أبقى على مساحة من العلاقة مع الجهات الأمنية، ويتحدث البعض عن دور هام له في سلسلة المراجعات الفكرية التي بدأتها الجماعتان، إختار الزيات بحكم أدائه الوظيفي البالغ الصيت في قاعات المحاكم العسكرية أن يكون على الحاجز دائما بين النظام والجماعة، خاصاً مع ما عرف عنه من عداء شديد لجماعة الأخوان المسلمين. هو ضيف دائم في صحف أقصى يمين النظام ويتخذ من خبرته وحكاياته عن علاقته بقيادات الجماعات الراديكالية مادة لبث رسائل مشفرة تجاه أكثر من جهة. كما نشر كتبا عن علاقته بأيمن الظواهري وقيادات الجماعة الأخرى. فهو ضيف دائم لتحليل رسائل أيمن الظواهري على شاشة الجزيرة، يدرك أبعاد الخلافات بين قيادات الجماعات في الداخل والخارج وخطابه يحمل دائما روحا إنتصارياً لكافة الحركات الإسلامية على الرغم من تبنيه أفكار وقف العنف. يمكن أن تستمع إليه واصفاً الزرقاوي بالشهيد، ولا ينتمي إلى محللي الخطاب الكلاسكيين من إقترابه من الوعي الحركي لتلك الجماعات بشكل حالي. يعتمد على تلك العلاقة التاريخية بهذه الكوادر في تحليله المتعاطف لأنشطتها، وهو يمثل بموقفه الوسيط أمنية النظام المصري لمستقبل المتعاونين من قيادات الجماعات خلف القضبان إذا ما قدر لهم الإندماج الهادئ في الحسابات السياسية الرسمية.د. عبد الرحيم علي العداء من منطق فلسفة البطريرك الأبعرف عبد الرحيم علي كصحافي مختص بشؤون الجماعات الإسلامية بجريدة الأهالي الناطقة بلسان حزب التجمع اليساري، والتي تبنى بطريركها الأكبر د. رفعت السعيد موقف العداء لقوى الإسلام السياسي التقليدي ممثلة بجماعة الأخوان المسلمين. ورث التلميذ الذكي من بطريركه العداء المميت لتلك الجماعات في شكلها الأكثر رادكالية. توقف مشروع البطريرك عند حدود حسن البنا، فيما إستطاع التلميذ، وبحجم العلاقات القوية بين بطريركه وأجهزة أمن الدولة، من التعامل مع بنك معلومات ضخم، قدم أول إسهاماته بكتاب عن خطابات المراجعات الفكرية لقيادات الجماعة في السجون وهو الكتاب الذي شكك عديد من المراقبين في وثوقية معلوماته. عبد الرحيم على صحافي منتصف التسعينيات ومفكك الخطاب الاسلامي على الطريقة الماركسية التقليدية، إقتحم عالم المنظمات الأهلية بمركز محل إسم "الإسلام والديموقراطية" كواجهة بحثية لأعماله التي دشنها بحصوله على الدكتوراة في سرعة مدهشة. وعلى عادة التطور الطبيعي للجيل الثالث من تلامذة التجمع ترجم على علاقاته الأمنية الجيدة بالإلتحاق كمستشار لقناة العربية الفضائية لشؤون الحركات الإسلامية، بما يعتبر تحوّلاً خطيراً من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. يكتب مقالاً أسبوعياً في جريدة الشرق الأوسط، ويتسع دوره لكل ما يحمل صفة إسلامي حتى لو تناول خطاب حزب الله. التشنج في التحذير من دموية الحركات الإسلامية بكافة أشكالها هو أهم مميزات خطابه. يبدو ملكياً أكثر من الملكيين في عدائه لتلك الحركات وإن تفوق على معلمه في عدم تمويه ذلك بأي غطاء إيديولوجي. فهو يكره اليسار مقدار كراهيته للحركة الإسلامية، ويبدو منتوج خطابه النهائي لصالح مفاهيم أصبحت غامضة مثل الأمن القومي والدور الإقليمي لمصر. هو الفزاعة الثائرية والمشكك الأعظم في إمكانية وقف تلك الحركات لقتالها الدائم مع الحكومات العربية. لايخلو تحليله الفزاعي من الحديث عن مصلحة الأنظمة، دون الخوض الشائك في علاقة الظاهرة الإسلامية بإيدولوجية أنظمة دينية بات الحارس الإستراتيجي في معركتها مع متمرديها. يطل عبد الرحيم علي على شاشة العربية وبمقال أسبوعي بجريدة الشرق الأوسط ويصدر حاليا موسوعة عن الحركات الإسلامية في نحو عشرين مجلداً تصدر عن إحدى دور النشر المصرية، لكنه لايتجاوز في تحليلاته لتلك الحركة مستواها الإقليمي وإن كان أكثر المستفيدين بهوس التفكيك التلفزيوني لخطاب الإسلاميين بعد الحادي عشر من سبتمبر. د. ضياء رشوان.. محلل تكتيكي على النمط الغربيهو أقرب النماذج الثلاثة من صفة الباحث الأكاديمي. حاصل على الدراسات العليا من باريس عام 1981. بدأ بالإنتماء إلى مدرسة مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية وهي المدرسة التي كثيرا ما أرتبط أداؤها البحثي بنمط أقرب لمراكز صناعة القرار البحثية الشهيرة بأميركا، وإن ظل المركز مستودعا للعقول أكثر منه موقعا للنصح أو الإرشاد فيما يخص القرار السياسي المصري، والذي يستمد قراره من الإرادة السياسية لشخص الرئيس فقط. إنضم الباحث الشهير للمركز ولم يرتبط بأي شكل في بدايات عمله بالحركات الإسلامية. وفيما يبدو أن قرار التحول لدراسة الحركة الإسلامية كان قراراً فرديا في مشواره البحثي، حيث ينتمي الباحث إلى جيل السبعينيات اليساري الذي كان أكثر المتضررين من الصعود الإسلامي على رافعة السادات منتصف السبعينيات. يرتبط تحليله بأدبيات ومنتجات المرحلة الثالثة من الحركة الإسلامية في طورها الدولي، منذ الهجرة الكبرى إلى أفغانستان. هو متميز في تحليل الخطاب والبيانات الصادرة عن الحركة الإسلامية وهو صاحب نظريات الربط الشهيرة بين التنظيمات الأقليمية ومثيلتها في جنوب شرق آسيا. راصد جيد لنشاط تلك الحركة على مستواها الكوكبي وإن بدت تحليلاته في النهاية تتسع في ذلك الربط وكأنه ميكانيزم ثابت ومضطرد، بمعنى أن السياقات التي تجمع تلك الحركات وإن بدت مشتملة على نقاط تشابه فإن ما يفرق بينها هو الآخر كثير. هناك فارق مؤكد بين حركة إسلامية مسلحة ذات تاريخ صدامي كما في الفيلبين قائمة على أساس إنفصالي، وبين شبكات القاعدة في أوروبا، وإن كان يحسب لضياء رشوان عمق تحليله للتحولات التكتيكية في عمل تنظيم القاعدة. رشوان الأقرب للصيغة الأكاديمية الموضوعية يضعك دائماً ـ وهو ما يميز خطابه ـ أمام قائمة من المعطيات والنتائج، بمعنى قربه من نسبية لا إطلاقية في تحليله لصراع الحركات المسلحة. ورغم ما يبدو على تحليله من موضوعية فيما يخص التمددات الدولية لتلك الحركة، إلا أنه، فيما يخص آدائها داخل مصر، يبدو بين سطور مقاله الإسبوعي بجريدة "المصري اليوم" أقرب إلى الإعتراف بضرورة إدماج حركات الإسلام السياسي بكل تلوناتها في داخل المشهد الساسي المصري. فعلى الرغم من قدرته داخليا على تحليل التباينات بين تلك التلونات إلا أنه كان من أكثر الأصوات التي طالبت بدمج الأخوان في معركة الإنتخابات. كما أنه الوحيد من بين النماذج الثلاثة الذي يشتبك يوميا مع الحراك السياسي حيث كان أحد الأعضاء المؤسسين للجبهة الوطنية للتغيير وهو لايخفي معارضته للنظام المصري وخاصة فيما يخص موقفه من الحركة الإسلامية ومسؤولية ذلك النظام عن خلق المناخ المنتج لها .ولا يرتكن ضياء رشوان على شاشة بعينها بل تجده حاضرا في معظم القنوات (الجزيرة ـ العربية) وهوغير متورط في أبلسة أو أنسنة الحركة الإسلامية، وإن ظل أداؤه في أحيان مشوباً بالتأويل المفرط في تعظيم فاعلية تلك التنظيمات وقدرتها على الحشد والتنظيم. الصور الثلاث السابقة لملامح خطاب التفاعل مع الحركة الإسلامية تلفزيونياً، بما أنها كانت في مجملها نتاجاً لعولمة الصورة التي حركتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر، سقطت كذلك جميعها في فخ إنطاق تلك البيانات والصور والتسجيلات ربما بأكثر مما تحتمل. فبعد إنقشاع ضباب الصدمة تأكد الجميع أن التعظيم المبالغ فيه لقدرات تلك الحركات لا يتناسب بأي شكل من الأشكال مع فراغ مضمونها من أي قيمة مضافة. ماهي الرسائل المشفرة لخطاب الوعيد والتهديد الذي تحمله تلك المنتجات في ما عدا لهجتها التهديدية وقيمتها الديموغائية في كسب التعاطف من المشاهدين؟ مجرد مشاهدين باتت تلك القيادات بالنسبة لهم صورة مجازية لنقاء لايستطيع أحد التورط فيه، نقاء يساوي بين جسده المتفجر وضحيته القادمة والعشوائية. الأزمة في كل هذا التأويل أنه يحاول ملء فراغ نص لايحوي أكثر من قيمته التعبوية العامة، خطاب لايبحث فيما يتجاوز قيمته السطحية عن مؤولون ربما لوكان ينطبق عليه ربع ما يدعونه عنه لكان قد حول العالم إلى مجتمع جاهلي كبير. فحتى مع أكثر صوره موضوعية في التأويل ـ نموزج ضياء رشوان ـ تبدو مجهولية ما يحدث هناك في تورا بورا وعشوائيته غير قابلة للقولبة التأويلية. وعلى ما يبدو أن "القاعدة" وتنظيمات الحركة الإسلامية في كل أنحاء العالم قد تبادلت المنفعة بحق مع من يدعون تفكيك خطابها، فالسجال مع مدعي الخيال الخصب ربما يفيد من تفتقد روحه الى الخيال.