سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأحد، أغسطس ٠٦، ٢٠٠٦

حوار مع محمد البساطي بجريدة الحياة اللندنية

«لا أتابع التلفزيون لكن أحياناً نشرات الأخبار وإذا كان هناك فيلم جيد يوصيني ابني بمشاهدته» ... محمد البساطي: الوضع الثقافي يزداد سوءاً... والهدر بالملايين
القاهرة - هاني درويش الحياة - 14/03/06//
محمد البساطيلم يتخل محمد البساطي عن لكنة أبناء الريف. من حكايات «صخب البحيرة» إلى المدن الافتراضية في أعماله الأخيرة يتجول ببساطة، كما يتجول بين جدران بيته حين تؤرقه الكتابة. عدا ذلك يصلح في منزله أعطال الكهرباء ويرى جيل الرواية الجديدة أكثر حساسية بفعل الخبرة الطازجة.
> في آخر أعمالك الروائية «دق الطبول» لجأت إلى الفانتازيا بعد مسيرة تؤرخ لسيرة ذاتية، لماذا الفاتنازيا في عمليك الأخيرين؟
- «دق الطبول» ليست فانتازيا بالكامل بل هي تستند إلى الواقع، لكنها تجربة في سبيل الخروج من التقليدية، فالفكرة تطلبت ذلك وأتصور لو حكيتها بالطريقة التقليدية كنت في احتياج لمجلد كبير وما خرجت بهذه الطريقة.
> لكنك ربما عكست المسار فالطبيعي أن تبدأ بالمجازي وتنتهي بما هو أشبه بالسيرة الذاتية؟
- نعم لأنني وجدت أن العالم الذي لدي فترت حماستي له فلا جديد فيه، الفكرة في «دق الطبول» تفترض شعباً خرج في الكامل لتشجيع فريقه في كرة القدم تاركاً إمارته في يد المستخدمين، كان لا بد من سخرية ما من هذا الخيال، سخرية ومرارة في آن.
> لكنك اتكأت على حوادث واقعية مثل حادثة عزل الأمير الأب، فما هي شروط غزل الواقعي بالفانتازي؟
- الشكل الخارجي ربما يكون فانتازيا لكن داخلها واقعي، أنا هنا استهلم كافكا الذي استفدت منه كثيراً فالمسخ مثلاً داخلها تفاصيل واقعية مدهشة، ولترى كيف يصف حركة الحشرة كذلك في «المحاكمة» وهذه عبقرية كافكا ولو أقام روايته داخلياً على تفاصيل خيالية لتحولت إلى عمل عجائبي، أنا حاولت أن أربط القارئ على الأرض ببعض المفاصل، قد أدعه يحلق في السماء لكن لا بد من أن يتصل بالأرض الواقعية في شكل ما.
> هذا يحيلنا إلى ميكانيزم إنتاج النص ذاته، كيف تختزل الوقائع لتعيد انتاجها في شكل نصي؟
- في حالة «دق الطبول» انفتح العالم أمامي مع نكتة شهيرة عن أن إمارةً ما سافر كل سكانها في ثلاث طائرات لتشجيع منتخبها الكروي وهي إحدى النكات التي تشتهر بين المصريين تندراً بعدد السكان، ثم بدأت أخضعها للتأمل من سيكون المتحكم في إمارة نزح أسيادها؟...
> إن كانت اختزالات الذاكرة تعمل أثناء الكتابة فما هو قانونها؟
- قانونها هو التلقائية، العمل نفسه يحدد مساره وما أن تحدد منطلقًا للحكاية حتى يتحرك «قطار» الرواية، والعمل يستجلب حوادثه وحواديته، فشخصية زاهية كانت جزءاً من حكاية جليسة أميرة قابلتها في إحدى زياراتي للخليج لكنها كانت تعمل كحكواتي لامرأة عجوز مقعدة، استحضرتها لكن عند الكتابة تشكلت في شكل مختلف فالمرأة تقدمها لإغواء زوجها، ويتلاعب بها الطرفان لمصلحة إنجاب طفل وهكذا.
> تقول دائماً إنك تستغرق ستة أشهر في كتابة روايتك، ولهذا تواترت أعمالك أكثر في السنوات الأخيرة، كيف تدير علاقتك بالنص؟
- في البداية يشغلك الموضوع لفترة طويلة، ينقلب في رأسي فلا أتحدث مع أحد، هو يستولي علي في شكل كامل، وأولى المشاكل تكون في مدخل العمل، أو ثلاث صفحات هي ما تشكل بقية العمل، إذا ما وصلت إليهم بعد طول تفكير انتظر لأتأملهم وعندما أجد «الفرشة» مستريحة أبدأ في العمل ولا يأخذ العمل في كتابته أكثر من ثلاثة شهور، وأكثر ما يهمني في البداية هو الإيقاع لا أبحث عن معنى الكتابة، يتحرك «قطار» الرواية وأعمل على تنظيم إيقاعه، وأحاول ألا أخرجه عن قضبانه، أي تشويش مرفوض، الكتابة الثانية أقرب إلى «صنفرة» وتشذيب العمل خصوصاً اللغة لكن لا يحدث تعديل في مسار الرواية.
> كيف تكون علاقتك بالعالم المحيط خلال فترة الكتابة؟
- تقريباً انقطاع كامل عن كل شيء لأنها أصعب فترة في العمل، لا أستطيع أن أقرأ أو أشاهد شيئاً أو أقابل أحداً، وتتكثف لحظات التفكير في المشاهد في فترة ما قبل النوم، لكن عند الكتابة ربما أسقط الكثير من المشاهد تبعاً لميكانيزم الكتابة نفسها، وأحياناً تكون المقارنة بين مصيرين أو اتجاهين للكتابة صعبة فأتوقف وأعيد التأمل ويستمر هذا لأيام حتى يحسم أيهما الأمر.
> هل تستعين في ذلك بمخطط ما أو كتابة ملاحظات؟
- لا لو عملت بمنطق المخطط ينهار العمل، فأي كتابة أو حكي عن الفكرة يقتلها. لا أملك قدرة «ماركيز» على أن يختبر الحكاية شفهياً في أحد أصدقائه ليتأمل ردود أفعاله، فأنا أتجنب الجميع، والأسرة لدي على رغم أنهم غير قراء لأعمالي يفهمون تلك الحالة، أصبح عصبياً فيقولون «سيبوه في حاله».
> لا تقرأ أعمالك بعد الانتهاء منها لأنك قد تمزقها، هل هذا صحيح؟
- لو قرأت عملي بعد انتهائي من الكتابة ربما أحس بعدم الثقة فيه، لا أتحمله وأشعر بأنه ليس ما أريده تماماً، بعد عامين أو ثلاثة قد أقرأه وأقول إنه عمل جيد لذا ألجأ إلى مراجعة البروفات مع بعض قرائي من الأصدقاء واعتبرهم القراء السريين، لا يتدخلون في العمل فقط يقيمونه بجيد أو متوسط أو سيئ من دون تفاصيل، لكنني لا أعود إليه مرة أخرى، مرة واحدة انتقد أحدهم أحد مشاهد قصة قصيرة لي ولم استمع لنصيحته وبعد سنوات اكتشفت في قراءة متأخرة صدق مقولته.
> لك موقف من التلفزيون والميديا لماذا؟ وما هي علاقتك بالسينما؟
- لا أتابع التلفزيون لكن أحياناً نشرات الأخبار، وإذا كان هناك فيلم جيد يوصيني ابني بمشاهدته أشاهده، وأشاهد أفلام الأبيض والأسود وخصوصاً أفلام عبدالفتاح القصري فهو الوحيد الذي يضحكني، ومتابع للأفلام الأجنبية الجيدة ومنها «الطاحونة الحمراء» الذي شاهدته ثلاث مرات لأنه فيلم ساحر وأبحث عن فيلم «باب الشمس» ليسري نصرالله لأنني سمعت عنه كثيراً، لكن في ما عدا ذلك لا أتابع السينما المصرية الحديثة.
> ما هو موقع الكتابة في جدول أعمالك اليومي؟
- في حالة عدم وجود كتابة استيقظ في الثامنة وأقضي حتى الثانية عشرة في قراءة الصحف بعدها أمارس تسكعاً منزلياً فأنا أصلح كل الأشياء المعطلة في المنزل، الكهرباء والسباكة، ولي مجموعة من المعدات الخاصة، ويستمر هذا لوقت الغداء، بعده أنام لساعتين ثم استيقظ للقراءة حتى الحادية عشرة. في أيام الكتابة أبدأ الكتابة في الثامنة صباحاً حتى الظهر، وبعدها أخرج للتمشي ولا أقابل أحداً، أعود على الداء وأنام وأبدأ في الكتابة مرة أخرى بعد الظهر، في المرحلة الأولى من الكتابة وبعد المسودة الأولى اترك النص عشرين يوماً ليبرد وأهدأ تجاهه، واستكمل الكتابة بعدها، تؤرقني الكلمات تحديداً في اللغة العربية كثيرة المترادفات، وأحياناً يظهر نتوء لغوي أبحث عن حلول له، وأحياناً ما استخدم العامية لما فيها من رنين وشجن خاص.
> تشارك بفعالية في حركة «أدباء وفنانون»، متى اهتممت بالسياسة، ولماذا تحرك المثقفون، وهل هذا التحرك النخبوي سيؤثر في هذه اللحظة المفصلية؟
- نحن لن نحل الأمور بمجرد مشاركتنا، هي صرخة بعد أن وصلت الحالة إلى هذا التدهور، الثقافة المصرية في أزمة، وهي من معالم الانهيار الحادث.
ملايين للتفاخر بالأرقام
> المثقفون المصريون جزء من تلك النخبة وتحركهم الأخير يواجه صعوبات، فما هو الحل؟
- الوضع الثقافي يزداد سوءاً وربما يكون مشهد حريق بني سويف ملخص لذلك الانهيار.
فموازنات المؤسسة الثقافية تهدر الملايين في مهرجان للمسرح التجريبي بينما لا وجود للمسرح التجريبي. والمسرح الحقيقي في القرى يشتعل بأبنائه لقلة الإمكانات. حتى الملايين التي تصرف على المشروع القومي للترجمة هي ملايين للتفاخر بالأرقام وأتحداك أن تستطيع أن تقرأ كتاباً فيه، الترجمة سيئة والأخطاء المطبعية واللغوية تفصلك عن العمل.
وقد أعطيت للمشرف على المشروع رواية كانت قد طبعت في الستينات لفوكنر في ترجمة لميخائيل رومان وعندما صدرت جاؤوا بشخص ليكتب لها مقدمة وأسأل: هل هو يكتب مقدمة لفوكنر أم لميخائيل رومان، أم يكتب ليقبض مكافأة؟
> المشهد الثقافي يميل إلى الاستقطاب العنيف بين معارضي المؤسسة ومواليها كيف تراه؟
- المثقفون المصريون منقسمون ولا يملكون تجمعاً قوياً قادراً على التصدي لما يحدث الآن فالبعض غارق في عطايا المؤسسة والباقي متروك للبراري. أحد المثقفين يتحاشى أن يجلس معي في المكان نفسه مخافة أن يبلغ الوزير أنه قد جلس معي وهو ما يدعوني الى التركيز فقط في عملي. «أدباء وفنانون» صوت إحتجاج فقط، والمسيرة طويلة، نحن في حاجة إلى 50 سنة حتى نعيد الشعب المصري إلى ما كان عليه. هل تصدق أنني كنت أدرس أعمال موباسان في كلية التجارة، الآن لا وجود للأدب حتى في كلية الآداب.
> ما هي آخر قراءتك وكيف ترى المشهد الروائي المصري في هذا الجيل من الروائيين الشباب؟
- آخر قراءاتي أعمال أعيد قراءتها مرة أخرى، مثل أعمال فوكنر ودوستويفسكي، فهي أعمال أنت في حاجة لإعادة اكتشاف جمالها من حين إلى آخر، والمشهد الروائي الآن في منتهى الثراء بهذا الجيل الجديد، شباب الرواية يحملون حساً مرهفاً بالواقع أكثر من جيلنا، ومستوى أعمالهم الأولى تتفوق على أعمالنا الأولى، واندهش لذلك في أعمال عزت القمحاوي وشحاتة العريان ومنصورة عز الدين وياسر عبدالحافظ، عبرهم أرى تفاصيل ربما تمر أمامي من دون ان أدركها، هم يملكون وعياً مختلفاً ومكثفاً بالحياة ربما نفتقده بفعل الخبرات التي باتت تقيدنا.

حوار مع إدوارد الخراط بجريدة الحياة اللندنية

«أستمع الى موتسارت وباخ بلا انقطاع اثناء الكتابة» ... إدوار الخراط: الأدب الرفيع يتوجه الى قارئ واحد افتراضي
القاهرة - هاني درويش الحياة - 25/04/06//
إدوار الخراطإدوار الخراط الذي جاوز أخيراً عتبة الثمانين صاحب تجربة خاصة في السرد العربي الحديث. إبن الاسكندرية كاتب «حيطان عالية» و «رامة والتنين» مولع باللغة والأدب والموسيقى والفن التشكيلي. هنا حوار معه:
ماذا تغير في علاقتك بالعالم والكتابة بعد هذه الرحلة الطويلة؟
- لعله من الغريب بالفعل انه لم يحدث تغير أساسي أو جذري أو عنيف في تصوري وعلاقتي بكل من العالم الخارجي متمثلاً في المجتمع، أو العالم الداخلي الذي يمس تصوراتي بالكتابة والمعايشة الروحية للأسئلة الكبيرة، لم يحدث تغير أساسي مما يمكن ان أسميه مرحلة النضج في اليفاعة المبكرة، فما زالت تصوراتي الآن وعلاقتي بالعالمين تبدو لو انها كانت هي نفسها في تلك المرحلة المبكرة، وكأنني ما زلت ذلك الصبي اليافع أو الشيخ الكهل في الوقت نفسه.
> منذ البداية وحتى في آخر أعمالك هناك رهان دائم على إمكان التغيير وإمكان أن تلعب الثقافة دوراً رافعاً ومحورياً يُطور المجتمعات العربية. الا تلاحظ تراجع الاهتمام بالفنون الكتابية مع سيطرة الوسائط التكنولوجية الحديثة كالميديا البصرية؟
- لا أظنني متفقاً معك على الإطلاق بأن تلك الوسائل استطاعت أن تهمش هذا الجانب، بل يبدو أن هناك ثمة علاقة من شكل خاص بين القارئ والكلمة المكتوبة، أحد هذه المقومات هو ان الكلمة المكتوبة وعلى عكس الوسائل الأخرى تتيح للقارئ قدراً من حرية الخيال والإبداع، لكن في حدود الأصوات التي تملك تلك الملكة الثمينة والقادرة على تقديم ذلك الإبداع.
> لكن الميديا الحديثة تقدم ذلك الخيال جاهزاً ومعلباً، هل الكتابة ما زالت قادرة على الاستحواذ على جمهورها الطبيعي والذي هو في تناقص مستمر؟
- لا أتفق معك بأن الصورة قاتمة إلى هذا الحد، ليست لهذه الوسائط تلك الهيمنة النهائية، وما يؤيد هذا الاستقراء أن الثقافات الغربية حيث وصلت الثقافة البصرية الى أعلى مستوى تقني، ما زال للكتاب والصحيفة والمجلة مكانتها التي لا يشكك فيها أحد ولا زال جمهورها يتزايد، ولعل وسائل الاعلام الجماهرية ساعدت ولم تعق تلك الهيمنة، فكثير من القنوات تتعامل مع الكتابة والكتاب وتقدم لهم برامج ربما ساعدت اكثر في بيع الكتب والصحف، ما يؤكد تلك المكانة للفنون الكتابية.
> لكن لك أطروحة حول أزمة التلقي في الثقافة العربية والتي ترى أنه لا بد من فك إشكالياتها قبل الحديث عن دور للثقافة في مجتمعاتنا. ألا ترى أن ازمات ذلك التلقي في ازدياد مع آلات تضخ لمتلق كسول بالفطرة؟
- يحتاج الأمر الى التقصي العلمي والمنهجي وإلى دراسات اجتماعية موثقة، لكن تصوري عموماً أن هذا ليس صحيحاً فسطوة الصورة ليست بهذه الاطلاقية، وان القارئ العادي لا يزال في احتياج الى حرية وخيال الكلمة.
> أنت دائم التفريق بين مستويين من الحداثة، الأول هو الحداثة الأدبية والثاني هو الحداثة المجتمعية، ألا ترى ان هذا التفريق تحديداً هو المسؤول عن نخبوية الثقافة؟
- أولاً ليست هناك علاقة آلية او مطردة بين الحداثة المجتمعية والحداثة الأدبية، بل ربما كان الأمر على العكس فلطالما كانت الحداثة الأدبية تسبق وتبشر بالحداثة المجتمعية، هي ليست تابعة للظاهرة الاجتماعية وإن كانت لا تنفصل عنها في شكل ما، يمكن ان تراها منذرة، لكن الأدب ليس له هذا الدور المباشر والحاسم، دوره في ما أقدر يقع على المدى الطويل وغير المباشر.
> لكن الآن تحديداً يحدث صدام عنيف بين حداثة الأدب العربي وحالة ردة مجتمعية عنيفة على كل المستويات والدليل تزايد المحاذير الرقابية واتساع رقعتها وتحول الجماهير نفسها الى حكم رقابي؟
- لا أتفق معك، نحن في احتياج الى تعريف أدق لحرية التعبير وضوابطه، الصدام إذا حدث بين الثقافة والمجتمع لا تقع ضحيته الثقافة، بل على العكس فإذا كان هناك ثمة ضحية فهي ظواهر اجتماعية معينة وليس المجتمع كله بأكمله، الثقافة أعمق في أثرها من ان يؤثر فيها صدام عارض.
> دائماً ما تضع غاية للأدب تتمثل في الحرية والعقلانية، كيف هو حال المثقف الآن مع حالة حصار لكل ما هو عقلاني وحر وإذ تحول عالمه الى صراخ في غرف معزولة؟
- دائماً هناك تناقض وصراع بين المثقف ومحيطه السياسي والاجتماعي، صراع قديم ومعقد، ولعله صحي فهو يضمن على الأقل خلخلة السلطة الاجتماعية، أياً كانت توصيفاتها، فما زال للثقافة دور في تحديث الظواهر الاجتماعية وفي الارتفاع بوعي الناس بالذات والعالم بما يؤدي الى تغيير المجتمع نفسه.
> لكن المجتمع استجلب معاييره مثل معيار السوق مثلاً في استهلاكه للأدب، أصبحت القراءة الآن لظواهر أكثر المبيعات وأصبح النجاح الجماهيري يرتبط بكتابة النميمة السياسية والاجتماعية أو الأعمال القابلة للمعالجة السينمائية، ألا يمثل ذلك خطورة ما على الأدب؟
- هذا الوضع ليس جديداً، فالأعمال التي يمكن تسميتها بالأدب الرفيع، هي بطبيعتها لا يمكن مقارنتها بتشجيع كرة القدم، النخبوية هنا ليست واردة، فالنخبة لم يفرضها أحد. الثقافة الرفيعة تحدد وتوصّف نخبتها، وليس العكس بمعنى انه ليست هناك طبقة معينة تفرض رؤية او ثقافة ما وتنفي رؤية او ثقافة أخرى، فالعكس هو الصحيح. الأدب الرفيع يختار نخبته، لا أعتقد ان هناك ما يروع روح الأدب من مستهلكيه الجدد. لقد كانوا موجودين باستمرار في تاريخ الأدب، هناك أدب شعبي مستهلك وهناك أدب رفيع قادر على الوصول الى اي طبقات اجتماعية او سياسية، الأدب الرفيع لا يتوجه الى جمهور بل يتوجه الى قارئ واحد افتراضي، رسالة لمتلقٍ واحد احتمالي غير محدد.
> هل ترى النقد الآن قادراً على متابعة الواقع الأدبي وهو واقع كثير الحركة؟
- هناك دائماً تنافر وتجاذب بين ما يسمى بالحركة الإبداعية والحركة النقدية، وبطبيعة الحال هناك فارق بين التنظير الأدبي ومجال التطبيق. العلاقة الآن سليمة، فما زال النقد يقوم بمتابعة وتقوييم الحركة الإبداعية، ما يراه البعض خللاً يرجع في تصوري الى انه لم يعد للنقد مكان في وسائط الإعلام، مثل الصحافة وغيرها، ما يشعر الناس بوجوده، لكنه ما زال موجوداً في المنابر المتخصصة، كما كان سابقاً.
> ألا تعتقد ان هناك افتقاداً لحساسية نقدية توازي الجديد أدبياً، ألا تنتمي الكتابات النقدية الآن الى لحظة سابقة ابداعياً ونقدياً؟
- هذا ايضاً ليس جديداً، فالتزامن بين النقد والأدب في شكل دقيق مستحيل، فالنقد يظل ملاحقاً للظواهر الاجتماعية، الفجوة ليست كبيرة وأظنها طبيعية.
> بعد هذه المسـيرة من «حيطان عاليـــة» الى «الغجرية ويوسف» كيف ترى الاختلاف في كتابتك وطقوسها؟
- ليس هناك اي فارق. ليست لي طقوس خاصة. احتاج فقط الى نوع من الهدوء والموسيقى الكلاسيكية الخافتة، ووجود من أحب قريباً مني. استمع الى موتسارت وباخ بلا انقطاع اثناء الكتابة. مكتبي هو مكاني المفضل. وإن لم أكن في البيت أحول المكان الى ما يشبهه، أضع بعض الكتب وأعدل أوضاع الأشياء لتشبهه. الكتابة نفسها لم تختلف. عملية احتشاد طويل ثم كتابة متصلة، والاحتشاد قد يستغرق سنوات، وقد يستغرق أسابيع، وأحياناً تأتي دفقات غير محسوبة أثناء الكتابة نفسها. حياتي الاجتماعية تستمر وان ظلت حياتي الداخلية تستعر من دون فصام بين المستويين، قد انتظر كثيراً قرار الكتابة من دون حساب، واحياناً يباغتني من دون وعي، لا أحسب لشيء، هي أقرب لتعبير الفوضى الخلاقة السائد سياسياً الآن.
> بعد هذه المسيرة الطويلة مع الكتابة والنقد هل ما زالت هناك كتابات تتوقف أمامها وتندهش؟
- اصبح ذلك نادراً، وكثيراً ما اشعر اني شاهدت هذه الكتابة، وغالباً ما يكسر تلك الرتابة كاتب أجنبي وليس عربياً.
> سوء الفهم واقع الآن بين الثقافة العربية والعالم من حولنا، ما تعليقك وأنت من رواد الحداثة؟
- لا يمكن التعامل مع هذا الغرب على انه غرب واحد شيطاني. هناك الغرب الاستعماري وهناك الغرب الثقافي وهناك الغرب الذي يدافــع عن الحرية اكثر من كل المنظرين العرب. العلاقة تاريخياً تتضمن كل هذا الخليط، هناك الغرب العنصري وهناك الغرب ضد العنصرية، كما اننا لسنا واحداً هناك الثقافة الشعبية والاستهلاكية التي يتم استغلالها، وهناك الثقافة العقلانية العلمانية المنفتحة التي هي المؤهلة للوقوف والحوار مع هذا الغرب من دون أي إحساس بالدونية بل بالندية وبالبحث الحقيقي عما هو مشترك.

صورة المرأة بين الإعلان والفيديو كليب

ورقة بحث قدمت في مؤتمر "الموسيقى والتليفزيون"، نظمه مركز البحوث الأمريكية بالقاهرة.

صورة المرأة بين الإعلان والأغنية المصورة
نموذج حالة المخرج شريف صبري


هاني درويش
مقدمة:

تبدو الألفية الثالثة في تجلياتها الأولى، ألفية الإعلام بامتياز. فالتلفزيون بقنواته الفضائية والصحافة الخربية وتكنولوجيا الإنترنت، دفعت العالم للالتحام والتواصل عبر آليات أكثر ديمقراطية لمن يحق له الاختيار. لكنه من ناحية أخرى، أماط اللثام عن ثقافات ظلت لفترة قريبة أسيرة تصوراتها الذاتيه عن نفسها وعن الآخرين، خاصةً في مجتمعات العالم الثالث التي دفع بها اختياراً أو قصراً في آتون الالتحاق بركب عالمي موحد. وذلك دون أن تستعد هي من طرفها لتنمية جدل طبيعي حول صورها المجازية عن نفسها وعن الآخرين. ومن ثم فهي مرتبطة إنتاجاً وسوقاً بنظام عالمي موحد، بينما لازالت بناها الفوقية ثقافيا ومعرفيا منجذبة لوشائج ما قبل الارتباط. فسياسياً لازالت الديمقراطية محل سؤال جوهري، وثقافياً لا زالت متخبطة بين الالتحاق في النموذج الموحد وبين الحفاظ على أنساقها الثقافية السلبية والإيجابية. لهذا بينما السياسي والاقتصادي يسارعان باللحاق، لازالت الثقافة والمعرفة محل انتقاد في تعاملها مع ذلك اللحاق. ولعل الجدل الدائر حول حقوق الإنسان العامة، وغياب المجتمع المدني، والموقف من المرأة، قضايا معلقة في خطاب الهوية، والتي تتم مراجعتها الآن تحت تهديد أمريكي. فإن السكوت عنها لصالح دعاوى قومية وشيفونية صار أمراً غير محتمل، ولا تصلح هنا مبادرات أنظمة كرست للتخلف الثقافي والاجتماعي للتحدث عبر آليات نخبوية في مراجعة تلك القضايا، خاصةً وأن انفراط مظاهر التخلف الثقافي والاجتماعي لتتخلل بنى المجتمع التحتية وعلاقاته البينية يحتاج إلى مبادرة جذرية تأتي من أسفل، وهو جل ما تخشاه تلك الأنظمة. ومن ثم يظل الخلل البنيوي في قدرة تلك الأنظمة والشعوب على الالتحاق بركب عالم واحد، شرطه الوحيد هو قدرة تلك المجتمعات على مراجعة قضايا ثقافية ملحة، وفي مقدمتها الموقف من وضع المرأة.

هذه الورقة معنية بالأساس، بفهم علاقة الإعلام بتكريس مفاهيم سلبية تخص النوع الـ gender. حيث تناقش تحليل الصورة النسائية المقدمة في المادة الإعلانية والإعلامية الخاصة بالمخرج المثير للجدل، شريف صبري.

من ناحية أخرى، جدير بهذه الورقة ألا تتورط في جدل الصم والطرشان الدائر داخل الأوساط الثقافية، حول أخلاقية تلك المادة. فشريف صبري رغم كونه نموذجاً فارقاً في جرأته على تقديم ذلك المستوى من الإعلان. إلا أنه من ناحية أخرى لا يمثل إلا مرآة عاكسة بفجاجة لوعي نمطي في تعامله مع المرأة، يمتد بجذوره ليصل منتقديه بمؤيديه. فالاستعصام بنسق أخلاقي مزدوج ومشوه، متحير في طيفه العام ضد المرأة، لن يحقق مناقشة حقيقية لما خلف شريف صبري من منتج ومستهلك، يعلقون على مشجبه تواطئهم المعلن والتاريخ ضد المرأة وقضاياها. وما كان للأخير – ودون قصد معني – إلا أن وضع النسق الأخلاقي في أكثر لحظاته مأزقية وهشاشة.

فكما هو معروف وخاضع لدراسات عديدة، أن صورة المرأة في الإعلام المصري سلبية بالكامل. ويكفي أن نعود بالذاكرة، وليس ببعيد، لأيام صخب وضجيج الهوس الشعبي بمسلسل "الحاج متولي"، والذي استطاع أن يؤدلج وعي جماهيري ذكوري في إطار دراما، أعادت المرأة إلى عصر الحرائر والعبدات، مصحوباً بكل الشفاعات الدينية للحق في تعدد الزوجات، وبجدل سخيف حول مفاهيم "العدل بينهن". وذلك بعد أن روج لخرفة نمطية عن المرأة التي همها الوحيد هو الزواج من الحاج الوسيم المقتدر. وتم ذلك في تعامل مع مرأة ككتلة واحدة لا يؤثر في ذلك تباين مستواها الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي، طالما هي تبحث عن ذكر عادل، تقبل مشاركة غيرها فيه.

وربما تبدو الصورة أعمق من ذلك إذا ما تابعناها في السينما تاريخياً، وفي حالتنا في الإعلان. فشريف صبري لم يطبع قبلة "جرافينا" الشهيرة للإعلان الذي اشتهر في الثمانينات بحملة "انسف حمامك القديم". وربما سبقه في الصخب إعلانيا المخرج طارق نور، بإعلاناته عن "البيفي" في أوائل التسعينات، والذي أرق مضاجع أعضاء مجلس الشعب الإخوانيين في ذلك الوقت. ومن ثم فالتراث السئ السمعة للتعامل مع المرأة، متصل ويمثل شريف صبري تجليه الأخير الصارخ. ونحن هنا بالأساس معنيين بربط ظاهرته وتحليلها وفقاً لسياقه الثقافي وعلاقته بتطور ذوق المنتج والمستهلك في شريحته الأوسع. وكذلك تطور سوق الإعلان المصري، داخل سوق الإعلان العالمي، في سقف مفتوح متصل، يتبادل التأثير والتأثر، وإن كنا من ناحية أخرى لا ننفي إرادة وإصرار شريف صبري ذاته على اختيار ذلك النوع من المعالجة المشوهة.


الإعلان واقع افتراضي تكريسي:

فيما عدا حملات التوعية الإعلانية التربوية والمباشرة، والتي غالباً ما تصيب المشاهدين بالملل، نتيجة لسوء تنفيذها، يعد الإلعان التجاري من أكثر المواد الجاذبة للمشاهدين بحكم تطلع المشاهد لمعرفة الجديد في عالم الاستهلاك، وتمثله من جهة أخرى لعوالم ما خلف الإعلان. فالإعلان رسالة من منتج إلى مستهلك، عبر وسيط بصري صوتي. ومن ثم فهي رسالة تحتوي على دلالات متعددة التداخل، يعد أبرزها قيمة الاستهلاك كسلوك يحفز عليه الإعلان، وهو هدفه الأول. في حين أنه غالباً ما يحتوي الإعلان على ترسيخ لقيم، ويؤكد على استبدال قيم أخرى. فعبر ما يقدمه من واقع افتراضي مواز، يحمل الإعلان دلالات الحياة كما يجب أن تكون. وهو بذلك غير معني بتقديم الواقع أو التشكيك فيه، بل يسعى بالأساس إلى تكريسه عبر تجميله وتأكيد جماليات الحياة، عبر استخدام المنتج المعلن عنه. ومن ثم فالهدف التسويقي البحث، يحمل في طياته أهدافاً مجازيه أهم، هي المسئولة عن اضفاء بريق صناعي على الحياة، عبر المدخل السلعي. وعليه فالدلالات الرمزية المخبؤة داخل الإعلان، تخلق بالتراكم المستمر افتراضاً لعالم آخر يخص الصورة البصرية، أكثر ما يخص الحياة الواقعية. ومن ثم تصبح غائية الإعلان المثلى هي إيديولوجيا تثبيت الواقع وتجميله عبر التماهي مع أنساقه الأخلاقية والمراهنة على التطرف الزائد في تثبيت تلك الأنساق، لاجتذاب وعي المستهلك المباشر لشراء السلعة من جهة وجذب لا وعيه الأخلاقي والقيمي، من جهة أخرى.

وفي حالة مجتمع ينحو إلى أنساق أخلاقية محافظة، يلعب الإعان دوراً في تعميق هوة الازدواج بين المفترض والواقعي. وتلعب الشاشة المربعة دور الفاصل الرقيق بين قيم المتلقي الأخلاقي المتماسك والواقعي من جهة، وبين عالم قيمي مخالف مشتهى وافتراضي بالكامل من جهة أخرى. ومن ثم يزداد اغتراب المتلقي الواقعي مع تلاعب الصورة الافتراضية بالمكنون الأخلاقي له، مما يزيد خندقة المتلقي مع زيادة ارتباطه بنقيضه الافتراضي المعاكس. فالمتلقي السلبي القابع على مقعد، المتوهم بحرية اختياره للمادة المشاهدة، هو أسير اختيارات حددت له سلفاً. وهذه الاختيارات تحدد له نمط استهلاكه وأخلاقه وصوره. وإحدى هذه المفاهيم المحددة سلفاً، أخلاقيا واستهلاكيا، هي المرأة. فالقطيع الفاقد لتمايزه الداخلي، هدف سهل للإعلان الناجح (من وجهة نظر تسويقية)، حيث يلعب الإعلان دوراً محورياً في توحيد خبرة قطاعات واسعة من الجماهير. ولعل فن الإعلان ومنذ بدايته في مصر، كان أكثر الفنون البصرية تكريساً للصور السلبية عن المرأة. حيث تتشكل صورها إما من إغواء جنسي، أو تدلل أنثوي مفرط، أو تسلط ذكوري عكسي. وهي مضامين تؤكد على النظرة التحقيرية للمرأة، باعتبارها آداة جنسية فقط. وإن كان الإعلان عاكس لنسق أخلاق يحاول المنتج استغلاله لتسويق منتجه، فإن صوره الدلالية تعيد إنتاج القيم السلبية في نمذجة متطرفة.

شريف صبري داخل سوق مفتوح واستنساخات محلية:

شريف صبري مخرج إعلانات مصري، بدأ في نهاية الثمانينات في العمل من خلال وكالة إعلانات (أمريكانا – طارق نور). ثم سافر إلى إنجلترا، حيث عمل لدى وكالات ناشئة تطورت معها إمكانياته التقنية. وعاد إلى مصر في منتصف التسعينات برؤية جديدة مستنسخة من وضع الإعلان داخل الميديا الأوروبية والأمريكية. تزامن وصوله إلى مصر مع حالة انفلات للسوق الإعلاني بعد تجزأ الوكالات التي احتكرت العمل في السوق، في الثمانينات وأوائل التسعينات، متداخلة مع اتجاه الرساميل الكبيرة للاستثمار في مصر (وفقاً لمقاييس السوق المصري نفسه). ومع دخول خدمات وسلع مرتبطة إلى حد كبير بالسوق العالمي، كخدمات الاتصالات، في لحظة اهتمت فيها تلك الاستثمارات برفع كفاءتها التسويقية. وهو ما وفر إمكانات مادية جبارة للحملات الإعلانية التي، ومع ثورة الميديا والاتصالات باتت مطالبة بالمنافسة في عصر القنوات الفضائية. وهو ما أحدث بشكل عام طفرة على مستوى تقنية الإعلان وإخراجها الفني. إلا أن شريف صبري وعبر أول إعلاناته لحملة مشروب "بيريل"، قدم رؤية بصرية واعدة، يمكن تلخيص تميزها في الملامح التالية:
1. حداثة الألوان البصرية المستخدمة في الإخراج الفني. حيث الميل إلى الألوان المعدنية الباهتة في درجاتها في درجاتها النحاسية القريبة من لون المنتج، والمصححة مونتاجياً، لإضفاء إحساس لوني مختلف عن الذاكرة البصرية للمستهليكن، الذين اعتادوا على الدرجات اللونية عالية التعارض الصارخة والمتناقضة (إعلانات طارق نور).
2. استخدام تقنيات في الإضاءة أقرب لتقنية التصوير الفوتوغرافي الـ soft box unit. حيث تبدو الإضاءة الداخلية، باستخدام المونتاج اللاخطي، أكثر تركيزاً على الوجوه والسلع، بينما تبدو الخلفيات معتمة.
3. استخدام زوايا تصويرية مبتكرة وجديدة، إحداها زاوية منخفضة الارتفاع، تعتمد على عدسة واسعة لإبراز قلب الكادر.
4. كادراج سريع وموحي، أقرب للكثافة مع audio مختصر وموحي ومبطن أكثر منه صراحة تشكل مع المضمون البصري تكاملاً كثيفاً لفكرة الإعلان.
5. استخدام لموديل تختلف ملامحها ومقاييسها الفسيولوجية عما هو متعارف عليه في سوق الإعلان، حيث الملامح الأفرولاتينية، ومقاييس جمالية دولية، أقر إلى مقاييس الموديل الدولي أو ملكات الجمال.
6. التلاعب بخيال المتلقي بالإحالة اللفظية والبصرية لموضوع الجنس بطريقة غير مباشرة (ولا نعني بذلك إنها عميقة)، ولكنها قائمة على إثارة قشرة وعي التلقي لإكمال فراغات الصوت والصورة.
7. استخدام موسيقى بلوز وجاز وموسيقى أفرولاتينية، خارج حالة موسيقى المقسوم التي سادت الإعلانات. وعبر ذلك انهال المعلنون على شريف صبري الذي مثلما استنسخ الإعلان الأجنبي بروح مصرية، استغل ذلك ودول سعر قوة عمله ليبلغ 5 آلاف جنية استرليني في اليوم. ليكتمل بذلك النموذج السلعي المتاميز في سوق يبحث عهن الارتباط والتواصل مع سوق عالمي أوسع.

ربما كان أكثر ما أعطى منتج ما أعطى منتج شريف صبري تمايزه، هو اعتماده الاحترافي على أطقم عمل عملوا معه في لندن، وخاصة مديرو التصوير والـ art directors والـ stylists. وبتقسيمه للعمل بشكل احترافي، قائم على مركزية رؤيته كمخرج، و creative لمعظم أعماله. إلا أن أهم العوامل السابقة والجاذبة لعملاء شريف صبري، كان اغتراب صورة المرأة لديه، ودلالاتها المحمولة والمحالة على جاذبيتها الجنسية حيث موديلاته يرقص رقصاً شرقياً بحركة عنيفة لا تنتمي لانسيابية الرقصة التقليدية بقدر محاولات الأجانب لتعلم الرقص الشرقي (مثال أغنية قمرين لعمرو دياب). وكأنه يعيد قولبة الصورة الاستشراقية عن المرأة الشرقية بمستنسخات أوروبية تشبه استنساخ المعلن للمنتج ذاته والمروج له.

تحليل صورة المرأة في أعمال شريف صبري (نموذجي دراسة حملة إعلانات "فيروز"، وفيديو كليب "طب ليه بيداري" لروبي:
حسية المقارنة بين الموديل والمنتج:

يبدو جسد المرأة شريكاً أساسياً في معالجة شريف صبري في الإعلان التجاري. وهذا ليس فقط عبر الحضور الطاغي إحصائياً داخل كادرات الإعلان، وهي نسبة كبيرة جداً، ولكن عبر الربط الدائم والحاذق بين السلعة المراد الترويج لها وجسد المرأة. وهو يستغل في ذلك كل الإيحاءات الممكنة، منطوقة كانت داخل الكلمات، أو مرئية داخل التتابع المشهدي، مع التركيز على التقطيع المونتاجي المتوازي بين التشكيل البصري للمنتج، وشكل جسد المرأة، مبرزاً المناطق الحسية بالغة الإثارة. هو في ذلك يعيد إنتاج نموذج المرأة اللعوب المستثارة جنسياً، في تناص بين منتج يتمتع بحسية تذوقية، مثل المشروب الغازي الذي تتخذ أشكال فاكهته الموسمية أشكال جنسية من ناحية، وبين حسية الجسد الأنثوي المشتهى بصرياً. ولنلاحظ إيحاء المنطوق ودلالة الترجمة البصرية التالية: "فيروز.. حندوس، على الطبلة آه يا طبلة، في المنجة آه يا منجة، فيروز أناناس.. باحبه آه يا ناس، فيروز حندوس". يتوازى المنطوق الموحي عبر استخدام لفظ "حندوس"، بدلالاته االجنسية في المخيلة الشعبية، يتوازى مع تقطيع بصري يتضمن ألواناً استوائية ساخنة وملابس موديلز موحية، يبالغ في التقطيع بين منطقة الصدر لديها والفاكهة الموسمية (المانجا)، في توازي للدلالة الحسية التشكيلية واللفظ الممطوط دلالياً.

وفي ثاني إعلانات الحملة، والملئ بالمؤثرات الموسيقية دون منطوق، تظهر فتاة في لقطة متوسطة قريبة، يبدو أنها تشاهد مادة بصرية جذابة على شاشة ما مختفية، عندما تقترب الكاميرا من شفاة الفتاة، تتضح إثارتها الشديدة عبر حركة الشفاة بشكل بورنوجرافي، يحيل المتلقي إلى توقع نوعية المادة المعروضة على الشاشة. ثم من زاوية جانبية عمودية تمد الفتاة يدها إلى الشاشة لتخرج منها كوب ممتلئ بمشروب فيروز، وترتوي بحسية شديدة، في إعادة تدوير لتيمة المرأة المستثارة جنسياً، بالإحالة على كون المنتج مجال الإثارة الذكوري. وهي استعارة كلاشيهية للمرأة كموطن للغريزة لدائمة الباحثة عن الارتواء.

وتبدو فجاجة التمثيل البورنوغرافي في ثالث إعلانات الحملة، وهي لترويج عبوة أكبر حجماً للتوفير. حيث يستعير التمية الموسيقية الشهيرة لأغنية سعاد حسني "يا واد يا تقي"، لنمذجة الارتباط الجنسي عبر دلالات لفظية وبصرية كالتالي: "ياه.. ياه.. يا لتر كبير.. ياه يا موفر لي.. جديد من فيروز.. جديد وعاجبني.. ياه ياه يا لتر كبير"، متداخلاً مع تتابع بصري ركز على اندفاع سوائل العبوة الكبيرة والتي تم تصويرها من زاوية منخفضة وبعدسة واسعة لتعظيم حجمها، مع تموضع يد الموديل عليها، في استعارة بورنوجرافية بصرية، تعمل على تحميل دلالة العبوة على العضو الذكري، مزيداً بالإيحاء اللفظي المتشابه بين كلمة لتر ومنطوق اللفظ العامي، مع إبراز تلك العلاقة الإيروتيكية المشيئة بين الموديل وجسم العبوة التي تصبح قادرة على ملئ أكبر عدد من الأكواب. المنتج هنا يحمل الدلالة البورنوجرافية المجسمة بينما الموديل تتحدث عن كبر حجم اللتر

"روبي" حملة إعلانية لنجمة بورنو تغني:

مرت سحابات عديدة دون منغضات في مشوار الأغنية المصورة، لشريف صبري. ربما بفعل البدايات الموفقة مع مطرب المرحلة في أعمال مثل "قمرين" و"حبيبي ولا على باله" و"تملي معاك". والتي قدم خلالها تنويعات جديدة لنموذج صناعة النجم الشاب، معتمداً في نجاح كليباته كما أسلفنا، على وصفتة الاستعراضية الاستشراقية. وهي الطريقة التي واصلها في موديلات أغنية "طب ليه كده" لراغب علامة، الذي قدمهن على هيئة الجنيات الثلاثة اللاتي يحطن بالنجم على طريقة تصوير أغني الـ rap gangs. لكن موجة الاعتراض بدأت مع كليب "يوم ورا يوم" للثنائي سميرة سعيد والشاب مامي، الذي اقتطعت منه بعض القنوات مشاهد ذات إيحاء بورنوجرافي تخص سميرة سعيد. لكنه عاد ليفاجئ الجميع بروبي، راقصة ببدلة شرقية في شوارع باريس، في إعادة إنتاج للصورة الاستشراقية، حيث ألوان البدلة الشرقية الصارخة متعارضة مع ازدحام مدينة باهتة لونياً ومن مساحة صوتية monotone ، تغني "أنت عارف ليه"، ليقدم مشروع نجمة بورنوجرافية، تستعيض بالحضور الحسي الجسدي عن غياب الموهبة الصوتية. ولم يقف عن الأمر عند ذلك الحد، بل عبر حملة إعلانية مبتكرة، أقرب لإعلانات الاتصال بالهاتف، لممارسة الجنس عبر التليفون، حيث صورة لفتاة تبتسم بإغواء مفرط، تطالبك بالاتصال برقم ما، لمشاهدة وسماع أغنيتها الجديدة، التي ولأول مرة لم تتضمن داخل ألبوم غنائي.

بعد تلك الحملة التي قوبلت باستهجان إعلامي وصحفي، وجدل أخلاقي صاخب، قدم أغنيته الثانية المصورة "طب ليه بيداري"، في قمة التمثيل البورنوجرافي، الذي اعتمد فيه عبر تنويع شخصياتها الأربعة، داخل كليب خالي من الحدوتة الدرامية. يركز بشكل كامل على جسد الموديل/المطربة، وبخلفيات يظهر عليها فقط اسمها. للتأكيد على الدلالة الإعلانية، أكثر من طبيعة الأغنية المصورة. وعبر التنويعات الرباعية، قدمها مرة في شخصية فتاة مراهقة ترقص رقصاً شرقياً. ثم في تجليها الثاني، تبدو رياضية داخل صالة جيم، في استعارة معكوسة ذكورية، وبتقطيع مدهش على مناطق اللياقة الجنسية الخاصة بالموديل. ثم في ثالث شخصياتها تبدو في نمط كلاسيكي، تحتسي كوباً وهي تغمز بعينها. ويختم تنويعاته الدلالية برداء أحمر مثير. ويلاحظ في رقص التنويعات الأربعة لروبي اعتمادها على نمط رقص غير تقليدي، أقرب لراقصات الريف والموالد الشعبية، في تلاعب مثير للمخيلة الفلكلورية البورنوجرافية، مع كامل التركيز في كل التقطيعات المشهدية، على المناطق المثيرة لبطلة العرض. والتي تشارك في معظم الأحيان عبر اللمحات البصرية في التركيز على نفس المناطق، مرددةً "طب ليه كده". وهو من ناحية أخرى، قدم لغطاً لفظياً يتوازى مع الخيال البورونوجرافي عبر حكاية فتاة ملتاعة، تسهر الليالي في انتظار حبيب مشغول بمداراة مشاعرة. وهو في ذلك التعدد لأدوار روبي، يقتل خيال المتلقي، عبر استعارة كل الأدوات الدرامية الشهيرة لأفلام البورنوجراف.

خاتمة:

في تلخيص نهائي لتحليل الصورة، يبدو جسد المرأة لدى شريف صبري، أكثر النماذج تسليعياً وتجارياً، بلا إدعاءات أو مواربة. فبدلاً من الإتكاء على منتج إعلاني، تصبح روبي ذاتها منتج سلعي بامتياز، يمكنك عبر نمرة تليفون أن تشارك في مشاهدة تصوير كليبها الجديد على الطبيعة. فطالب الخدمة الروبية قادر الآن على المشاهدة العينية خارج الصوت والصورة المجردين. والمدهش أن سجن شريف صبري لنموذج المرأة في نمط روبي رباعية المظهر، يقتل خيال الصورة في إطلاقه.

هو في النهاية يم الخط على استقامته حتى النهاية، بتصورات جماهيره المتحيزة مبدئياً ضد المرأة. لكنه وهو يفعل ذلك يقدم التجلي الأخير، الأكثر تطرفاً لتلك الصورة المشوهة، المنتجة عبر تاريخ طويل من التحيز السافر. هو يكتب نهاية زمن المواربة خلف استعارات بصرية أو إيحاءات لفظية. ولا يترك غير الصورة في تجردها النهائي، الذي يحمل المرأة كل الشرور الأخلاقية لمجتمع ذكوري وسلعي. وهو قبل ذلك وتلك يملك جرأة/وقاحة عكس مرآة لا وعي الجماعة المحافظة، لا أكثر، عبر أغراض تسويقية واستهلاكية محضة. وكأن هذا الصخب المدوي جاء بعد أن نزع عن الجميع ورقة التوت الذكورية الأخيرة. فبحث الجميع عن مداراة لعوراتهم الأخلاقية المزدوجة والمتحيزة.

الشاعر الجنوب افريقي بريتين بريتنباخ: أمريكا و"إسرائيل" تسعيان إلى "تعفين" الضمير الإنساني
حاوره في القاهرة: هاني درويش

متسكع عالمي ذلك العجوز الستيني الذي يحمل راية شعر المقاومة حتى لو انتهت معاركه ليشرعها في مواجهة ضمير عالمي متعفن.. هكذا بدا “بريتين بريتنباخ” الشاعر الجنوب افريقي في زيارته الأولى الى القاهرة. حدثنا عن “ذاكرة الطيور من زمن الثورة” وأكد أن “في افريقيا الذباب أيضا يشعر بالسعادة” وتأسى على “العودة إلى الفردوس”. عشرون كتابا شعريا وخمسة وأربعون عاما من التجوال بحثا عن “شجرة وراء القمر” ربما يبدو أبيض كارها لنفسه وفقا لموضة كراهية الذات لكنه في خطابه إلى شارون يؤكد أن الذاكرة لا تموت. يتصارع داخله السياسي والشاعر وعلى حدودهما الفاصلة يجري في صراع ضد البربرية وهو يدلي ب “الاعترافات الحقيقية لإرهابي مصاب بالبهاق”. إن تهمة بريتين بريتنباخ لا تزال تطارده إلى الآن فهو “ينحت كلمات تدفعه إلى الجنون، ويزرع ألوانا في مواجهة حكم نافذ بإعدام الإنسانية”.

كان بريتنباخ قد زار الأراضي الفلسطينية تضامنا مع الانتفاضة والشاعر محمود درويش وكتب على إثر ذلك رسالة شديدة اللهجة موجهة إلى “الجنرال اريئيل شارون” من باريس بتاريخ 7 أبريل ،2002 كما يذكر أيضا أنه درس الفنون الجميلة في جامعة كيب تاون وغادر افريقيا إلى فرنسا أوائل الستينات لكنه منع من العودة إلى جنوب افريقيا بعد زواجه من فرنسية فيتنامية الأصل طبقا لقانون منع الزواج المختلط 1949. وفي فرنسا كان عضوا مؤسسا في جامعة “أوكيلا” التي تحارب التمييز العنصري في المنفى.
هنا حوار مع بريتين بريتنباخ شاعر المقاومة:
عرفت المنفى منذ البداية 1959 بين البرتغال وإنجلترا والنرويج وأخيرا فرنسا كيف أثر ذلك في تجربتك الإنسانية التي انعكست على كتابتك؟
كنت شابا في العشرين عندما اضطررت للخروج من جنوب افريقيا، ربما كنت يافعا يظن أنه سيفتح العالم بطموح الشباب، كنت غبيا إلى حد ما، لأن ذلك التجوال الذي أردت أن أؤكد به رفضي لذاتي وللآخرين سمح لي بفك وإعادة تركيب شخصيتي من جديد، صرت متسكعا عالميا، لأنني كلما حطت خطاي انفتحت عيناي على حجم المعاناة التي لا تختصني وحدي بينما أتشارك فيها مع ملايين غيري، كل هذه الثقافات التي احتككت بها أخرجتني من صندوق الذات المغلق إلى ذات العالم الطلق الحر.
وكما يقول جورج موستاك المطرب الفرنسي وابن جيلنا “كنت من أقلية الأسياد وعليّ أن أصبح من أغلبية الخدم”، هناك في اللغة الفرنسية ثلاث كلمات تؤدي المعنى ذاته بشكل متناقض هناك “ماتيس” التي تعني الاختلاط بين ندين وهي إيجابية وهناك “باسترد” بمعنى الاختلاط السلبي، وهناك “ماتيك” التي تعني اختلاط الأصول الوضيعة، بت ابن مواطنة الأصول الوضيعة إنسانا ينتمي للمعاناة الإنسانية الأوسع.
أسست جماعة “أوكيلا” للمناضلين الكتاب من البيض والسود ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب افريقيا، في دمج للسياسي بالفني كيف جمعت بين آليتي العمل الجماعي السياسي وفردية الإبداع؟
لا أعرف أيهما كان أكثر تأثيرا فيّ ولكني أعتقد أنهما متناغمان ومتداخلان، هناك شاعر صيني اسمه “هان سانج” في القرن الحادي عشر كان يسكن مكانا يسمى الجبل البارد وكان يكتب على أوراق الشجر والصخور، كان لهذا الشاعر صديق طباخ يلم بكل الكتابات من خلفه وهكذا عرفناه، لولا ذلك الطباخ لما تغير الفكر الأخلاقي للشعب الصيني، بمعنى هناك وجود للفرد، لكن هناك شيئا مهماً في علاقة المبدع بالآخرين فالفردي والجماعي يمثلان إيقاعين مختلفين للوجود الإنساني كلاهما يغذي أنشودة الحياة.
الحرية والقهر محركان أساسيان لكتابتك الإبداعية كيف تطور داخلك ذلك المفهوم ونقيضه مع تحولات تجربتك السياسية؟
الشعر كما أرى هو محاولة قول ما لا يمكن التفكير به ومن ثم الإبداع قائم بالأساس على الحرية كشرط مسبق فالكتابة عبر كلمات هي محاولة دائمة لتجاوز الحدود، الحدود التي تقيد الإنسان، وهي أي الحرية بذلك شرط وجودي لكل الكائنات لكنها لدى الفنان مسؤولية أخلاقية فهو المسؤول الأول عن تخطي الحدود المحددة سلفا للعقل البشري، بخاصة إذا كانت تلك الحدود متداخلة البنى داخل المجتمع اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
ومن علاقتي الخاصة بتاريخ النضال في جنوب افريقيا أرى أن ذلك النضال كان بالأساس بحثا عن الحرية والمساواة حيث لا يمكن اختصاره رغم خصوصيته في مشكلة بيض وسود بل بين الغني والفقير ومن يحكم ذلك الصراع سلطة عنصرية وعسكرية.

النظام العنصري
هذا يقودنا إلى عمليك المهمين “العودة إلى الفردوس” 1991 و”قلب الكلب” اللذين طرحت بهما منذ البداية تشككا في طبيعة التحولات في جنوب افريقيا بعد سقوط حكم بريتوريا كيف ترى ذلك؟
النظام العنصري كان بالأساس نظاما اقتصاديا طبقيا تحكمت فيه أقلية بيضاء مرتبطة بالرأسمالية الغربية في ثروات شعب غني من الفقراء هذه الأقلية كانت تحافظ على مصالح تلك الرأسمالية عبر شركاتها، ولهذا دعمها الغرب لفترات طويلة، فجنوب افريقيا سوق لعمالة رخيصة جدا وبعد التحول تغير الوضع شكليا بينما بقيت علاقات الاستغلال نفسها، الفارق أن رئيس الشركة بدلا من كونه أبيض أصبح أسود ومازال رئيس العمال يحصل على عشرات أضعاف العامل بل إن المسافة بينهما الآن أوسع مما سبق، ما حدث كان اتفاقا بين حركة التحرر والشركات العالمية للنظام الجديد ومن ثم فالصراع لا يزال مستمرا.
في “الاعترافات الحقيقية لإرهابي مصاب بالبهاق” قدمت تجربة السجن من زوايا متعددة بين التقرير والرؤى الحلمية هل مثلت تجربة اعتقالك 1975 1982 تحولا في مشروعك الكتابي؟
هدف السجن في أي مكان في العالم أن يخلق سجناء، لذا فتجربة السجن تجربة عالمية، السجن عالم سفلي لجماعات بشرية تتوحد مهما كانت جنسيتها، تجربة غنية ومؤثرة وعندما خرجت من السجن نظمت لي الحكومة الهولندية محاضرة ألقيها أمام وفد عالمي لسجون العالم، وجدت أنهم رغم اختلاف دولهم يشبه بعضهم بعضا، عندما دخلت السجن شعرت بأني مقبل على موت لا محالة، في سجن بريتوريا المشدد الحراسة وخلال أول عامين وضعوني كسجين سياسي في زنزانة انفرادية يستخدمها منفذو أحكام الإعدام لغسل أيديهم بعد تنفيذ الحكم مباشرة، كانوا يدخلون عليّ بعد تنفيذ الإعدام يضحكون ويثرثرون أو يتقيأون، لا تتخيل كم شعرت برائحة الموت كل يوم عندما كان يدخل طبيب الإعدام ليتأكد من موت الضحية كنت أموت كل يوم.
كنت ممنوعا من الدخول بسبب زواجك المختلط الممنوع وفقا للقانون العنصري ورغم ذلك خضت مغامرة للدخول بجواز سفر مزور ألا يعد ذلك انتحارا؟
هناك مثال يقول “الأسماك الميتة فقط هي التي تسبح مع التيار” لقد عدت بهدف سياسي وهو عمل اتصالات بأعضاء جدد لمنظمة “أوكيلا” وقد عشت في فرنسا بأوراق مزورة جزائرية، لقد كان نشاطي الرئيسي يهدف إلى العودة ضد التيار، عدت كمحاضر فرنسي باسم مزور جلست بين مثقفين أفارقة تحدثوا عن شخصيتي الحقيقية “بريتين بريتنباخ” وكم كانت الطرافة رائعة عندما وجدتهم يعرفون قصائدي ويتناقشون عن مكان اختفائي حتى إنهم انقسموا أين أنا الآن فأكد أحدهم بكل ثقة أنني أعيش منفيا في الصين.
في كتابك المهم عن تجربة السجن “ملاحظات روائية في مرآة” تحدثت عن محاولة هروبك كيف كانت العودة وكيف عشت هاجس الإعدام؟
بعد سنتين من الحكم وتحديدا في 1977 حاولت الهروب وعندما فشلت المحاولة كان قرار الإعدام لكوني إرهابيا متوقعا، كنت أسمع السجانين يراهنون على موتي “أصبحت مجالا للمقامرة داخل السجن”. وكانت كل تهمتي أنني أرسل أشعارا وهي مفارقة، أدركت كيف يمكن أن تصبح الكلمات مشنقة للقهر. وعندما تدخل محامون دوليون وضغطت مؤسسات فكرية ونظمت حملات للدفاع عني كنت على وشك الموت، تعرضت لتعذيب فكري ونفساني لقد كان الطعام ذاته داخل السجن نوعا من التعذيب وقد أسفرت الضغوط عن الإفراج عني لكنها تجربة مؤلمة.
الشعر هل لا يزال معبرا عن المأزق الوجودي بخاصة مع سيطرة أنماط كتابية كالرواية على عالم القراءة؟
الشعر غير قابل للتدمير أو الاستبدال بأي نمط كتابي آخر، فهو مرتبط بفطرة الإنسان الأول، فالإنسان الأول عبر عن نفسه عبر الإيقاع، نفس داخل وآخر خارج، حياتنا إيقاع، وهو بذلك أقدم آلية لعقل الضمير الإنساني منذ الخليقة، والكلمات والصمت.. هي الهمهمة لها دور إلا أن الكلمات وحدها لا تشكل الشعر، فعروض “داريو فو” المسرحية والتي تحفل بالصمت والهمهمة هي شعر، ولا يزال الشعر حتى الآن وهو وسيلة الاتصال الفردية المميزة للتحاور مع العلم حتى لو اختلفت اللغات والثقافات، فأنت عندما تعتلي منصة تلقي شعرا تحرك يدك وعينيك، تصمت تعلو بنبرتك وتنخفض، الشعر هكذا باق ما ظل هناك إنسان ينتظم داخل إيقاع الحياة.
أنت مناصر لقضايا الشعوب العربية وقدمت رسالة مفتوحة إلى ارييل شارون في 2002 محذرا من موت الضمير، الآن في 2004 هل ترى أن نبوءتك قد تحققت بعد الذي يحدث في فلسطين والعراق؟
الوضع الآن أسوأ بكثير مما سبق، لي صديق يقوم بالوساطة بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين” وكلما ذهب إلى الأراضي المحتلة يعود ليؤكد أن الوضع يزداد سوءا لدرجة أنني طالبته بألا يذهب إلى هناك كي لا يسوء أكثر “يضحك”!! أرى أن الفلسطينيين و”الإسرائيليين” لو تركوا وجها لوجه ربما تحل الأزمة على عكس ما يرى البعض فأمريكا لديها مصلحة أكيدة في أن يستمر هذا الصراع، فما يجمع الأمريكي و”الإسرائيلي” هو الاعتقاد بأن الحل الأمثل للقضية هو اختفاء الشعب الفلسطيني كله وربما العرب جميعا لأن الفلسطينيين يكرسون الآن للا أخلاقية العالم وأرى موضوعيا أن الشعب الفلسطيني ليست له حكومات صديقة كما يعتقد البعض لأنه عبر آلية منتظمة كلما تظهر فرصة استثنائية للسلام عبر شخص أو منظمة أو دولة تقوم “إسرائيل” بالاغتيال أو أمريكا بوأد المحاولة.

“إسرائيل” وجنوب افريقيا
قدمت في خطابك السابق تناصا رائعا بين دولة “إسرائيل” وحكم جنوب افريقيا العنصري فوصفت نفسك بأنك كنت يوما من أقلية تعتقد أنها “شعب الله المختار” أترى التناص قائما؟
الوضع في الشرق الأوسط أكثر سوءا مما كان لدينا فالصراع محسوم، كثيف البطش والقهر في آن والرغبة في إذلال الفلسطينيين تفوق التصور فالنية مبيتة، ونافذة على عمق تعفين للضمير العالمي. فالقتل اليومي يسرب إلى الناس أن ذلك طبيعي ويتسرب العفن إلى ضمائرنا، إن الوضع مسرحي بالكامل “شعب زرع بمكان وطنه صحراء وعندما وجد آخر فيه عليه أن يستوعبه، لم يعد أمامه إلا محوه، قتله وإبادته، إنها كلوحة “جويا” الشهيرة التي يظهر بها اثنان يقتلان بينما يغوصان في مستنقع من الوحل. لكن ستظل الذاكرة حتى لو أفنوا الشعب الفلسطيني فهناك الذاكرة وهي لا تموت لأن الذاكرة محلها القلب.
ما علاقتك بالثقافة العربية نعرف أنك صديق لشعراء عرب مثل محمود درويش وهل وثقت السياسة علاقتك بالثقافة العربية؟
أعرف عن الثقافة العربية الكثير، فأنا عشت فترة بجواز سفر جزائري في فرنسا ولي صداقات بمحمود درويش والكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي والجزائري رشيد بوجدرة والناقد محمد برادة والطاهر بن جلون وزيارتي الى القاهرة بداية جسر للتعارف ولدي هنا مشروعات للترجمة وعند عودتي إلى جنوب افريقيا سأشهر مسدسي في وجه آخرين من الكتاب لأجبرهم على مد الجسور فنحن في الخندق نفسه وعما قريب سأرى “بعد الترجمة” جسدي يتحدث بالعربية!
أرى حسا أفلاطونيا ومثاليا رغم لغة التشاؤم لديك ما منبعها؟
نحن الآن أمام مرحلة يأس في الشروط الإنسانية هل نحن قادرون على توصيل صورة الإنسان إلى حدودها الإنسانية الأصلية ربما أكون مثاليا غبيا لو توقعت الأحسن لكني أستعير حكمة بيكيت الشهيرة “لا نستطيع التقدم للأمام لكننا لا بد أن نتقدم للأمام”، حتى لو بدأنا من نقطة الصفر أشعر بأني عداء إثيوبي تعلم الجري لمسافات طويلة وربما ينتهي السباق لكنه لم يتعلم كيف يقف وسأظل أجري.

بريتين بريتنباخ

شاعر وروائي وقاص ومصور من جنوب افريقيا ويحمل الجنسية الفرنسية
ولد في 16/9/1939
درس الفنون الجميلة بجامعة كيب تاون
أسس في فرنسا جماعة “أوكيلا” التي تحارب التمييز العنصري في المنفى
يعمل أستاذا زائرا بجامعة كيب تاون ويقوم بالتدريس في معهد “جوته” بنيجيريا وأيضا بجامعة نيويورك.
معظم أعماله منشورة باللغات الافريقية المحلية وبعضها بالإنجليزية.
من مؤلفاته المنشورة بالإنجليزية: البقرة الحديدية يجب أن تكدح “شعر”، منزل الأصم “شعر”، في افريقيا الذباب أيضا يشعر بالسعادة “مقالات”، البقايا “شعر”، أحداث مأساوية “قصص”، شجرة وراء القمر “قصص”، موسم في الفردوس “رواية”، اعترافات إرهابي مصاب بالبهاق “شعر”، ذاكرة الطيور في زمن الثورة “مقالات”.

مقطع من قصيدته "أغنية التمرد"


فلتبك الأمهات
حتى تجف الأثداء
وتضمحل الأمعاء
عندئذ تقصم المقصلة
امنحيني قلبا
يدق بالنبض
يضرب أقوى من اضطراب قلب الحمامة الخائفة
يدق أعلى من الطلقات
أريد أن أموت قبل أن أموت
عندما يكون دمي مازال خصبا
وأحمر
قبل أن آكل تربة الشك المسرحي

رسالة من بريتين بريتنباخ إلى شارون
ظلم الماضي لا يبيح ممارساتك الفاشية في الحاضر


سيدي..
أنت لا تعرفني وليس هناك ما يوجب ان تعرفني او ان تصغي لكلام من هو مثلي. لا أخالك تضيع وقتاً في الإنصات الى آراء لا تتوافق مع آرائك. في الواقع كلي قناعة انك لا تنصت الى من يقول ما لا تشتهي.
أما إذا كان الأمر يهمك فأنا كاتب من مواليد جنوب افريقيا أقيم وأعمل خارجها اليوم، هناك نشأت وعشت لفترة ما بين افراد “شعب مختار” هو الآخر يتصرف كشعب من الأسياد بكل من يؤمنون بفهمهم المطلق لإرادة الله وأوامره ويؤمنون بتميز وتفرد آلامهم.
أستميحك عذراً اذا ما آلمتك مقارنتي ل “اسرائيل” بشعب الأسياد نظراً لأصداء الماضي القريب حيث كان الكثيرون من يهود أوروبا ضحايا ل “الحل النهائي”، لكن كيف أصف ممارسات جيشك بصورة مختلفة ونفسي مثقلة بالرعب من أفعالك؟ أعلم جيدا وجوب عدم استثارة العواطف المباشرة من خلال كتابتي، وهذا ما قد تؤدي اليه المقارنات السطحية، اذ إنها تلغي إمكانية تفهم واستيعاب الظواهر المدروسة على دقائقها وتعقيدها، وتسهل التهاب الحناجر وتقيؤها بسيول متدفقة من الشعارات الطنانة والكليشيهات الممجوجة.
على الرغم من المعتقدات الجماهيرية فإن “نظام الفصل العنصري” لم يكن “نازيا” ويجب ألا توازى ممارسات “إسرائيل” ضد الفلسطينيين بنظام الفصل العنصري، فكل من هذه السياسات والأنظمة على حدة تملك جميع الخصائص والمكونات التي تضمن تميزها وتفردها. مع ذلك لا يخلو الأمر من أوجه الشبه والخلاف، هذا التسابق الأعمى ما بين الطرفين على احتلال الدرجة الاولى في سلم الضحايا، فظاعة الذرائع التي تنمق “الحق الإلهي” في الدفاع عن النفس، وقاحة الأكاذيب وتشويه الحقائق، انتهاكك الذاتي لقيم مجتمعك، انعدام الاكتراث بالفلسطينيين حتى على مستوى الإغاثة الانسانية البسيطة لمجتمع مدني محاصر.
كل هذه التصرفات مألوفة ومعهودة، القناعات الأساسية التي تنبع عنها تصرفاتك هي قناعات عنصرية، وكما كان الحال في جنوب افريقيا انت ايضا تأمل في ان تخضع عدوك بوسائل العنف وإراقة الدماء والتحقير، وبعنجهيتك الساخرة تأمل ايضا في ان تحقق النجاح ما دمت تلعب الدور بالطريقة التي تتماشى مع المصالح الامريكية. لا أخالك تأبه للمصالح الامريكية من قريب ولا من بعيد لا بل كلي قناعة انك تحتقرهم لضيق أفقهم ولانغماسهم بالبلاهة والجهل في كل ما يخص سائر العالم.
صحيح ان مندوبك - تاجر الخيول المسروقة - نتنياهو يزاول مهنة الدعاية الفظة بأوقح اشكالها، وكأنه اصبع قذرة تداعب الرأي العام الامريكي، وأنت ايضا تمارس انتهازيتك عن طريق ترداد ببغاوات الرئيس الامريكي المعاق اللفظ واللغة، والذي يصف كل من هو آخر بأنه إرهابي بممارستك لهذا الدور تثبت انت ايضا انك تعتبر بقية سكان العالم قطيعاً من الأغبياء.
بالطبع لسنا جميعاً مؤمنين ان “الفضيلة العليا” هي العطش الأمريكي للنفط البخس، وعليه فلن نكرس جل اهتماماتنا وقوانا لعلاج بعض الأنظمة الفاسدة في المنطقة ولن نغمض اعيننا عن كل الباقي.
بات من السائد والمعتاد ان اي نقد لسياسات “اسرائيل” هو بالضرورة تعبير عن “اللاسامية”، وبهذا تحسم وتفض معظم النقاشات، أنا أرفض تماما هذه المحاولات القمعية، ليس هناك كم من المعاناة يقدر ان يمنحك المناعة والحصانة من النقد سواء كانت هذه معاناة التوتسي او الأكراد، الأرمن او الفيتناميين، أهل البوسنة أو الفلسطينيين، ومع مزيد الأسى يا سيدي فليس هناك كم من الاضطهاد يحصن شعباً ما عن ممارسة الفظائع نفسها عند اضطهاده شعباً آخر.
ما من احتكام الى وهم ارض موعودة صدر عن رب واحد، يبيح او يبرر ممارسات جيش محتل، لا ولا يضفي قدرا من الشرعية على المذابح والمجازر المرتكبة في حق ابرياء باسم المقاومة.
كل هذه الاستنادات والاستيحاءات من تهويمة دينية اسمها “اسرائيل الكبرى” تعجز تماما عن تمويه حقيقة كون “مستوطناتك” مستعمرات مدججة بالسلاح مبنية على أراض فلسطينية منهوبة، وإنها منغرسة هناك كالأوتاد المعدنية في لحم الفلسطينيين، أو حقيقة كون “مستوطناتك” خنادق وأوكار قناصة تهدف الى تدمير اية احتمالات لنشوء دولة فلسطينية، الطريق الى السلام لا تعبد بمحق الآخر وسحقه وإبادته مثلها مثل الطريق الى الجنة وهي ايضا لا ترصف بجثث الشهداء. شعار “اللاسامية” يثير أساي خصوصاً حين يتبناه مفكرون ومثقفون يهود يشكلون عادة جزءا معقولا من الدعامات الفكرية للمجتمعات الغربية. لماذا ينبغي علينا ان نخضع ونذعن لهذا الشعار حين يستعملونه هم، ومن ثم يحظر استعماله اذا كانت “اسرائيل” هي المرتكبة للجرائم؟
كلا أيها الجنرال شارون ان ظلم الماضي لا يبيح ممارساتك الفاشية في الحاضر، لا يجوز ان تنشئ دولتك بطرد شعب آخر له نفس المرجعية للأرض ذاتها، وعلى مر الزمن فُإن سياستك اللا أخلاقية وقصيرة النظر و”الغبية ايضا” سوف تضعف كثيرا شرعية “اسرائيل” كدولة.
أتيحت لي مؤخرا فرصة اول زيارة للمناطق الفلسطينية، وهي تشبه الى حد كبير الجيتوهات ومعسكرات البؤس المعهودة في جنوب افريقيا. ألقيت نظرة خاطفة على “اسرائيل” عند الدخول وأخرى عند الخروج بعد قضاء ليلة في فندق “دافيد” الوثير والمهجور في تل ابيب. لربما كانت رؤاي منحازة، ربما، مع أن حدودك المدججة بالسلاح والحواجز وبنقاط التفتيش والدبابات كانت شديدة الحضور طيلة فترة مكوثي - ووجدت نفسي متسائلا: هل شعباكما مختلفان الى هذه الدرجة حقا؟ كلا الشعبين يتكون من مزيج متشكل من الحضارات والثقافات، كلاهما يحتوي على نسبة عالية من المهاجرين والعائدين، شعباكما متساويا الذكاء والفطنة وبراعة التعبير عن النفس، أنتما متشابهان في الجسارة، ثمة أدمغة خلاقة ومبدعة في الطرفين الى جانب أعداد مهولة من الأنانيين عشاق القوة المتطرفين وذوي النفسيات المشوهة بمفاهيم دينية مغلوطة.
كشخص استفزازي بارد ولئيم فإنك تتميز بين أقرانك، عن طريق محاولاتك الواهية للتنكر للاتفاقيات والنكث بالوعود وتضييع اية فرصة للسلام فيما عدا سلام القبور والمنافي والمبني على “الترانسفير” او “اختفاء” الكيان الفلسطيني، فإنك تسبب هيجاناً في المنطقة بأسرها، لعل هذا من ضمن مخططاتك، وستثبت لنا الأيام ما اذا كان اجترار أفكارك ومبادئك في واشنطن سيؤثر ويحد من إرهابك وسياساتك التدميرية الجائرة او إنه سيشكل ستارا ناجعا يتيح خلق تحالف اقوى “للعالم الحر” ضد “الإرهاب” ويؤدي الى السيطرة على الموارد والأسواق العالمية والنفط البخس و”الديمقراطية”.
الأيام القليلة التي قضيتها هناك مع بعثة البرلمان الدولي للكتاب، خلفت لدي مزيجا من الانطباعات القوية والمتناقضة، ما أصغر فلسطين! ما أعمق تداخل شعبيكما! الحجارة في كل مكان، الاسماء التوراتية للأماكن، الضوء البديع، محاولة التشبه بسويسرا عن طريق اقحام بعض الصنوبريات الغريبة على طبيعة المكان، الطبيعة الجدباء للأرض فيما خلا بعض المناطق. ما أشد حزن القرى، تذكرك بمدن ألمانيا الشرقية الفاترة والراكدة. الأضواء الخضراء على المساجد، المباني غير المكتملة، قبح العمارة، تفاهة احتلالك، كل تلك الطرق الالتفافية المنارة والمقتصرة على استعمال المستوطنين و”الاسرائيليين”. حقارة تحكمك من خلال الحواجز التي لا تخدم الأمن بقدر ما تثير الرغبة في الصراخ، اذ لا هدف لها سوى التحقير والإهانة والمضايقة والاحباط ودفع مجتمع كامل تحت الاحتلال الى هاوية الجنون، الأعمار الندية لجنودك، وهم شباب وفتيات طيبو النشأة مع الأسف، طرق القرصنة والسلب المشين والتي بها هدمت الاقتصاد الفلسطيني، طرق الانتقام البدائية مثل هدم البيوت وقلع اشجار الزيتون وتدمير المحاصيل، المنظر البدائي لاستحكامات الجنود ومن فوقها رفرفة الأعلام “الاسرائيلية”، وسائل إعلامك “الديمقراطية” المغرقة في الكذب على جمهورك والمتجاهلة تماما لجرائم الحرب التي يقترفها جنودك. أسوار برلين التي تطوق مستوطناتك في قطاع غزة ومن ورائها فروع لكليات جامعية، مراكز ابحاث، فنادق لشبكات امريكية وملاعب جولف، ومن الناحية الاخرى حطام الأحياء الفلسطينية المدمرة والتي تبدو كالأرض اليباب، الطريقة التي يسد بها الأطفال أنظارهم الينا وكأنهم غير آبهين، لاحقاً فهمنا انهم مصابون بالصدمات النفسية ليس بسبب أزيز طائراتك وهمجية جنودك الذين يطلقون النار كيفما اتفق وحسب بل وأيضا بسبب هيجان الشباب حولهم، النساء المحجبات في بعض مخيمات اللاجئين صارخات انك أنت يا شارون لن تتمكن من زحزحتهن وإنهن قد طاردن جنودك الفارين كالكلاب، غليان المثقفين والفنانين المحاصرين في رام الله، يتناقشون ويطلقون القفشات حول ورطتهم، كلهم قالوا: “لا نريد ان نكون ضحايا ولا أبطالاً، كل ما نريد هو أن نمارس حياتنا الاعتيادية”. يأسهم الساخر. محمود درويش: “ثمة فائض من التاريخ وفائض من الأنبياء على هذه الرقعة الصغيرة من الأرض”. الزيارة إلى مقر ياسر عرفات. يداه المصفرتان كالشمع تتشبثان بكليشيهات فارغة: “سلام الشجعان” و”الضمير العالمي”. سيدة برجوازية تتحسر على التشويهات التي لحقت بالمناظر الطبيعية في فلسطين. محامٍ لحقوق الإنسان يصرح: “نحن شاكرون لشارون على أمرين، أولهما أنه وحد الصفوف الفلسطينية، وثانيهما أنه لم يبق أمامنا من خيار سوى المقاومة!”. فيما بعد أضاف هذا المحامي - وهو مدخن ثقيل ينضح عنه عرق الموت - ان الاضطهاد بات يعشش تحت جلود الناس، والآن لم يتبق لهم من وسائل دفاع عدا جلودهم. تلك هي القنابل البشرية.
إليك استنتاجاتي المتناقضة: أنت قد فشلت في كسر معنويات الفلسطينيين، على العكس، هم الآن مصرون تماماً على إنشاء دولتهم مهما بذلت من جهود في اضطهادهم، قد كانوا متوقعين هجومك الضاري عليهم وعرفوا أنك كنت تراقص الجنرال زيني وربما تحت بركة ديك تشيني. هم أيضاً موقنون أنك الآن وبعدما أسهمت في تعزيز قوتهم سيتوجب عليك أن تضربهم بمزيد من الشراسة واللؤم، لأنك متورط داخل دهاليز متاهة صنعتها بيديك. مثل بوش في حملته الصليبية ضد الأشرار والمشاغبين، يتوجب عليك أن تصعّد وتغالي في تعظيمك للأخلاقيات العالمية، وتزايد في ازدهائك بالمنطق السليم، وأن تسكب المزيد من المال لتغطية فساد خطواتك السياسية. الفلسطينيون يعلمون أنهم لن ينالوا رضاك مهما فعلوا، ويخشون أن تؤدي تصرفاتك إلى إطلاق عنان كل قوى الشر الكامنة بينهم، وكلهم يقين أن هذا سوف يضعف ويزعزع كيان “إسرائيل” بشكل جوهري.
ولكنك غير آبه، أليس كذلك؟
يا للخسارة ويا للرعب! يا للخسارة ويا للرعب..

الأربعاء، أغسطس ٠٢، ٢٠٠٦

مساء كئيب آخر مساء ربما يسهو في لحظته الاتية مقاوم عن بندقيته خلف تلة يحرسها بجسده في أقصي قرية يظهر إسمها علي شريط أخبار في تلفزيون نست إمرأة ان تغلقه وراحت في سبات عميق ، الرجل الساهي للحظات ربما تفصله عن موت محقق إذا ما رصده قناص من علي الجهة الأخري يمشط بجهز الروئية الليلية بمنتهي الجبن الجدير بقأر مزعور تللك التلة التي إستحكمت عليه وعلي آمره لمدة أيام طوال مخافة أن يكون بين تلك الآحراش بعض من مجانين يواجهونهم بصدور عاري وسكاكين وربما حزام ناسف ، ، الرجل الساهي من طول المرابطة خلف تلك الشجرة يجوب بعينه عل أحد الجبناء هزم مخاوفه من أعداد خيالية فتوغلت قدماه في مرمي نيران المقاوم الساهي ، يالله الرحمة في سماء تلك القرية التي يمر أشمها علي شاشة إمرأة نائمة ، فالتحمي المقاوم الساهي ولتقتل الجبناء في صدورهم ولتصحوا المرأة الآن لتغلق شاشتها علي أستطيع إغلاق تلك الدائرة أو إغلاق عيني