سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، يوليو ٢٨، ٢٠٠٦

عباس بيضون .. هذه المرة

هذه المرّة، الآن
عباس بيضون
الصواريخ ناعمة ممشوقة، شكلها البيضاوي يطمئن الأطفال. انهم يدورون حولها يتمسكون بها كما يتمسكون بخواصر امهاتهم ويريحون رؤوسهم على وسطها. انهم أطفال ويصنعون امهات من كل شيء، ويمنحون لكل شيء أماً، لكن من جلبهم الى هنا ليكونوا أبناء الصواريخ. من جلبهم ليرسموا على الصواريخ. رسوم الاطفال وقائع. انهم يرسمون ليبثوا شيئا. اذا فعلوا ذلك فلن يزول ولن يبتعد. يضعون امهاتهم وحيواناتهم وعائلاتهم وخصومهم فلا يمكنهم بعد ذلك ان يفلتوا. من اعطى للأطفال الاسرائيليين اقلام الفلين العريضة ليكتبوا على الصواريخ: هدية الى اطفال لبنان. يكون الاطفال احيانا قساة. يكونون أشرارا. لكن من يجرؤ على ان يحاكم الطفولة، من جلبهم الى هنا، من اعطاهم اقلاما. من صورهم جنب الصواريخ. من أعطاهم كلمة السر <هدية الى أطفال لبنان> كان بالتأكيد طيارا يريد ان يقتلنا. ان يسفك وجوه اطفالنا على دمهم براحة ضمير. كان بالتأكيد يريد ان يؤنث الصواريخ، ان يجعلها أمهات، ان يهديها لنا ليزرعها في حلوقنا واضلاعنا بدون قلق. هذا في أفضل الأحوال. الأغلب أنه جلب الاطفال. انتزعهم من أذرعة امهاتهم ليريهم أي عائلة تنتظرهم بعد حين، عائلة الرؤوس المتفجرة والقلوب التي تدار بالليزر. لا شك في ان الأمر أسوأ. هدية الى أطفال لبنان. رؤوس متفجرة الى قلوب اطفال لبنان. من يجرؤ على ان يحاكم الطفولة. يكتبك الاطفال قتيلا. يرسمونك قتيلا. من يجرؤ على ان يجازيهم. ان يكون الطفل عربيا أم اسرائيليا، سيكون اولا طفلا ومن يجرؤ على ان يجازيه. لكن للجيش الاسرائيلي قصة اخرى مع الاطفال الفلسطينيين دائما واللبنانيين الآن. قصة اخرى وغريبة ايضا. هل احصى أحدكم كم طفلا قتل الاسرائيليون منذ الانتفاضة الفلسطينية الاولى حتى الآن. انه عدد ضخم. لن نقول إنهم يفضلونهم أطفالا. سنقول انهم لا يتفادون الاطفال. سنقول انهم لا يفعلون شيئا ليتجنبوا قتل الاطفال. لا يهمهم ان يكونوا أهدافا عسكرية. لماذا يقتل الاسرائيليون أطفالا أكثر؟ لأنهم لا يبالون اذا كان هؤلاء أطفالا. انهم يدمرون بيوتا على رؤوس أصحابها. لأنهم يقصفون شققا سكنية لأنهم يهدمون مباني مأهولة، ويبيدون في كل الأحوال عائلات بأطفالها، ولأنهم يخطئون، يخطئون دائما تلك الأخطاء المقصودة التي تجعل الترويع مضاعفا. للمرة الأولى أيا كانت سياسته يشعر العربي واللبناني ان في بسالة مقاتلي حزب الله وكفاءتهم القتالية، أمرا يخصه، أمرا يدخل في حساب بينه وبين نفسه. ثمة دين تاريخي، ثمة ذاكرة كاملة، ثمة تروما أصلية، ثمة احباطات غدت مع الوقت طبيعة ومزاجا، ثمة خجل لا يمكن شفاؤه. ثمة سخرية من الذات ويأس من الذات. ثمة كل ذلك وشجاعة وكفاءة المقاتلين في الجنوب جواب عليه. مهما تكن سياسة العربي واللبناني، الا ان الأمر ليس تماما سياسة وليس تماما ابن لحظته فقط، انه حوار مع التاريخ. بل هو تقريبا وفجأة عمل تاريخ. انها المرة الاولى التي تكون فيها الأمور بهذا الشكل، المرة الاولى التي لا يتعثر فيها العرب بحلمهم التاريخي ويقلبونه مسخرة عليهم. المرة الاولى التي لا يبدون فيها وقد رهنوا وجودهم وحياتهم باسكتش سيئ الاخراج، بفصل تهريجي، بهراء كامل. هي الحرب وها هم ببساطة يحاربون الآن، تكلموا عن قتال وذهبوا حقا إليه، مارسوه شجاعة وفنا وعلما وإرادة، أيا تكن النتائج. لقد حطموا الجدار أيا كانت النتائج فلن يخجلوا من أنفسهم، لن يعرضوها لعاصفة من الضحك والزراية. هذه المرة لن يقتلوا وهم يولون. لن تفرقهم الرمال، لن تبيد الطائرات قلوبهم، لن تكون حربهم سباقا. هذه المرة كان عليهم اكثر من الاستفزاز الكلامي، اكثر من الانشاء الحزبي. لم يظهروا عاجزين حتى عن الهرب، كذابين لا على أنفسهم فقط بل على العالم ايضا، غيلان كلام، غيلانا من ورق اذا استعرنا من جديد ما فالوقت يسمح. هذه المرة، هذه المرة، الذين اتهموهم والذين لاموهم هنا وهناك يقفون احتراما لهم، لقد اشتروا حياتهم بثمن غال وباعوها بثمن غال. ما من استخفاف، ما من نزق، ما من ادعاء، وقفوا عند كل شيء ولن يتسلمه الاعداء، اذا قدر ذلك الا مجبولا بالشجاعة والدم والصبر، سيكون فعلا ترابا وطنيا عند ذاك. ايا كانت سياسة العربي او اللبناني فإن له في حرب الجنوب دينا خاصا يستوفيه، تصحيحا لشيء في ذاكرته، تعويضا عن احباط، مسحا لخجل. ايا كانت سياسته فإنه لن يكون بعد الآن مسخرة الأمم، لن يكون بعد القاصر الأبدي. لن يغرق في فنه الوحيد الخاص: التهريج على نفسه. لم تكن المعركة في البدء جامعة رغم كل الكلام التضامني. القصف على كل حي ومتحرك والقصف بالاطنان على الحياة المدنية والسلم والدولة زادا الأمر انقساما. كانت حربين ومعركتين. الآن بالضبط الأمر أكبر من سياسة، اكثر من حدث، ابعد من اليوم ومن اللحظة. انه نوع من استعادة حلم، انه مثال آخر. هدم لجدار انطولوجي، جواب بقوة تاريخ. لندع السياسة جانبا. الذين عميت ارواحهم وأعينهم وهم يبتلعون المساخر ليس عليهم إلا ان يفتحوا أعينهم الآن، ان يبصروا، ان يروا هذا المثال وهو يتكون. ان يجدوا للمرة الاولى معنى لكل هذه الكلمات التي حولناها الى ترسانة تفليسة وترسانة خدع ذاتية. عليهم فقط ان يبصروا. ليتركوا لما يجري ان يوقظ طفولة وصباح احلامهم، ان يعيد اعتبارا لكل هذا الهدر الذاتي الذي سميناه تاريخنا، اعتبارا لآمال بدت صفراء وخسائر بالأطنان في سبيلها. عليهم ان يبصروا الآن فقط ما يجري وان يأخذوا حصتهم منه، ان يتنفسوه أولا. ان يملأوا رئاتهم وأعينهم ومشاعرهم منه، وليكن بعد ذلك ما يكون، انه نسمة ولن نستحي من ان نعيرها لهذا العمر الذي تصحّر، ولهذا الموت في النفس. لطالما اعطى القادة العرب في لحظة سقوط في أكاذيبهم ذريعة والبقية كانت فقط عقابا. كانت فقط جلدا وإذلالا جماعيا. هذه المرة بدأت اسرائيل عقابا أكبر. كان على كل حي ان يرتجف تحت طائراتها. كان الاسترخاص والاستخفاف ومساواتنا بالتراب. كان الطيارون يلعبون بنا، يلعبون بنوعنا وعديدنا ويحققون كل يوم بضعة نماذج دموية. تركنا بلا رحمة تحت الانقاض وبين الانقاض. سمحوا لنا ان نتحمس لأنهم لن يسخروا الآن منا بعد، لن يتعثروا بجثثنا وحدها، لن يتقدموا بطلاقة، لن يواصلوا بحرية نهمهم الدموي. لن يلعبوا بنا بعد اليوم من دون ثمن، انها لحظة. دعونا نُهْدها لأرواحنا. مهما تكن سياسته سيجد اللبناني في معركة الجنوب شيئا يخصه. ستكون لحظة بلا سياسة، الآن نفهم ماذا يعني ان نترك الحساب لما بعد.

حوار مع صنع الله إبراهيم بجريدة الحياة اللندنية

«انا فعلاً انطوائي وطاقتي محدودة» ... صنع الله ابراهيم: الكتب والأرشيف مصادري وندمتُ على قراءة «11 دقيقة»
القاهرة - هاني درويش الحياة - 14/02/06//
صنع الله ابراهيمكيف يخلو الحوار مع صنع الله ابراهيم من السياسة؟ مهمة شاقة لمن يحاول تخيله خارج مشهد الناسك الساكن في قمة بناية في ضاحية مصر الجديدة في القاهرة. تذهب اليه محملاً بأسئلة الكتابة فيواجهك بأسئلة التاريخ. وحين تحاول تنقية نقاشكما من عصب الايديولوجيا. يطرق صامتاً ليتحدث معك عن بواب البناية وأمراضه. ليس عليك الا ان تحسده على اختياراته التي يبدو مخلصاً لها حتى النهاية، قابلاً بالحد الادنى من متطلبات الحياة والاصدقاء والشهرة. ولا تفوته الفرصة للسؤال عن احوالك الشخصية كأحد الاصدقاء القدامى، فيما يطلب الصفح للجميع قبل نفسه. صنع الله ابراهيم الذي يشبه ذاته لا يجد غضاضة في أن يتركك محملاً بالهموم التي تناسيتها عن عمد.
> الرواية كنص تاريخي كيف ترى معادلتها المتزنة من دون إجحاف بقيمة الرواية كنص مستقل؟
- المعادلة تخضع لمنهج الروائي ذاته، بعض الروائيين يلتزم الواقع التاريخي او يستتر خلفه بقيمة رمزية، وهناك آخرون يتجاهلون جوانب لمصلحة جوانب أخرى، والبعض ينطلق من رؤيته الخاصة للحدث التاريخي، والأخير هو الأفضل لأن كتاب التاريخ الرسمي مزيف وكاذب.
ألا يحمل هذا الرواية ما هو فوق احتمالها؟
- الرواية تتوافق مع منهج الكاتب الروائي. فالراوي التاريخي ليس معنياً بكتابة منزهة للشخوص، بل بالولوج في ما وراء الاشخاص ودوافعهم واهوائهم، المهم في النهاية ان ينجح العمل في اجتذابك كقارئ، ويساعدك على الفهم، ويتوقف ذلك على مهارة الكاتب، كذلك تقبل القارئ لأنماط غير تقليدية في السرد.
> «امريكا نالي» شهادة احدثت خللاً في التلقي نتيجة ذلك الازدحام والعناية بالتفاصيل الدقيقة الموثقة؟
- الازمة هي مزاج الكاتب، انا كنت ارى ضرورة توثيق تلك اللحظة محاولاً أن أجد رابطاً بين التوثيق ومجمل السرد، لا ادافع عن العمل، في «امريكا نالي» قدمت نموذجاً لتلك الكتابة في كتاب اشرت اليه لمؤلف من اميركا اللاتينية يحكي تاريخ القرن العشرين بتقنية جديدة، حيث يضع احداثاً معينة يصوغها في شكل مختلف مثل تصريحات فورد مغزولة بمعارضات غنائية سردية خاصة به، ربما تشعر ان هناك مشكلة في السرد المؤلف لأن بطله الحقيقي هو القرن وهو يتأمل تجلياته في الممثلين والملاكمين والانقلابات، هذا شكل ربما تجده غريباً، المحصلة النهائية ان هناك اشكالاً متنوعة للتعبير كلها تؤدي الى الامتاع بدرجات متفاوتة تبعاً لتلقي القارئ، خصوصاً مع ظهور آليات التلقي الجديدة كما في التلفزيون والانترنت والتي عودت المتلقي على نوعية سلبية من التلقي.
> «يوميات الواحات» أثار لغطاً حول بعض الاحداث التي شاهدها البعض من زوايا مختلفة وشككوا في درجة ودقة ما قدمته؟
- اليوميات شهادة مرتبطة بزمنها، وهذه اليوميات متعلقة اساساً بفكرة مهنية الكتابة ومشكلاتها واحتمالاتها، هي تجربة لكاتب يتشكل، وهي تعتمد على فكرة غامضة هي الذاكرة ربما تخون، هي لعبة صعبة خصوصاً مع تقدم السن، لذا هناك مجال للخطأ ولم أرفض تصحيح الآخرين، الاساس في هذه اليوميات كان البحث عن أنسنة المناضل السياسي، خارج الهالة المفترضة حوله، بمعنى تصويره بنقاط ضعفه وتخلفه، بحسب تكوينه واستعداده، وهي الصفات الطبيعية التي أحاول أن أؤكد بها ثقة القارئ في نفسه، فالقارئ بطل مثله مثل هذه الكائنات التي لا تختلف عنه في شيء، وهذا لا يتناقض مع قناعاتي اليسارية.
> استعادة التجربة هل أتت بوعي لحظة الكتابة الاولى أم الكتابة المتأخرة؟
- بمزيج من الاثنتين، عليك أن تحاول البحث داخل تلك اليوميات عما كان مقصوداً منها في لحظة الكتابة ثم في اعادة الصياغة لتصبح محملاً برؤيتك على مدى السنين التي تلتها. هذا ليس نصاً روائياً. هي سيرة تكوين كاتب بصرف النظر عن التاريخ.
> كيف ترى وأنت جزء من التاريخ اليساري مثقفي اليسار المصري الذين طالما قدموا أدلجة لنظم استبدادية كما الحال مع «ناصر»، وكيف ترى موقفهم من المؤسسات الثقافية الى الآن؟
- اختلف مع ذلك تماماً. اليسار الآن يتزعم الحراك السياسي، وتاريخياً هناك وجهتا نظر تأصلتا في اليسار عبر العالم، أنت كمعارض يساري ربما تأتي عليك لحظة وتجد فيها تغيرات في النظام ومن المفيد ان تتداخل معه وتساعد على توجيهها، العملية دقيقة وربما تؤثر سلباً او ايجاباً، في تجربتنا عندما تكون ضعيفاً يجرى استيعابك، لو كنت قوياً تستطيع التأثير. ومشكلة الحركة اليسارية انها تعرضت طوال تاريخها لقهر وقمع منظم. كذلك معاناتها من سيطرة التيارات المتطرفة، فهل تتخيل مثلاً انه عام 1949 خونت التنظيمات اليسارية حركة «حدتو» لأنها اوقفت نشاطها لمواجهة وباء الكوليرا الذي تفشى في مصر في ذلك العام. فإذا لم يكن النضال ضد مرض يقتل الفقراء ثورياً، فهل الانعزال والنخبوية معالم لثورة اليسار؟ الواحد لا يحمل نصاً مقدساً، كل ما لديه دليل للعمل. والممارسة هي التي تتعلم منها كيف تحول ذلك الدليل الى تجربة، اليسار عانى عزلة استغلها التيار الديني افضل استغلال لأن اليسار اخلى مسؤوليته بعد تفسيره للواقع من دون أن يندمج في هذا الاخير بفاعلية تؤدي الى تغييره.
> انت تنتمي الى ذلك المصطلح الخلافي المسمى «الأدب الملتزم». كيف تضع تعريفاً له؟
- في اعتقادي ان أي مبدع هو أديب ملتزم وأحدده اصطلاحاً ان يصبح الكاتب أميناً في رؤيته اياً كانت والى ما تصل، وهي تعتمد على رؤى الكاتب في الحاضر وقراءته للماضي وقدرته على استشراف المستقبل، التزامه هو التزام امام هذا العالم، لا يعني الالتزام ان يكتب الناس عن القضية الفلسطينية أو عن حرب العراق وربما يظهر الالتزام أحياناً في عكس ذلك تماماً، نجيب محفوظ كان حريصاً منذ البداية على عدم التورط في الايديولوجيا والسياسة وظل أميناً لذلك الحياد طوال هذه المسيرة الطويلة ولا تستطيع ان تدعي أنه كاتب غير ملتزم، وما نتأكد منه بعد كل هذه المسيرة ان أي رؤى ايديولوجية تظل ناقصة وغير مكتملة.
> ما تعليقك على الشروط التي وضعها نجيب محفوظ لإعادة طبع «أولاد حارتنا»؟
- هي سابقة خطيرة وقد تستخدم استخداماً سيئاً، وعلى رغم رفضي تدخل المؤسسات الدينية في المجالات الإبداعية، الا انه في حالة نجيب محفوظ لا يمكن الحكم على دوافعه. علينا ان نحذر من اطلاق الاحكام المطلقة ضده، له دوافعه ويجب احترامها، بعبارة أخرى هذا الرجل بقامته الادبية لا تستطيع ان تعرف ما هو تصوره الآن. لا بد من أن نعرف منه دوافعه. المشكلة ان الازهر ربما يوافق على الرواية لكنها ستفتح النار على الجميع.
> أعمالك تحمل حساً سياسياً نافراً بنظرية التآمر السياسي والثقافي؟
- فليقنعني احد بأن لا تآمر في ما يحدث حولنا، مثلاً قضية التمويل الاجنبي للمؤسسات الاهلية ما هو المقصود منها؟ بحكم خبراتي قابلت يساريين من اميركا اللاتينية الى اوروبا الى آسيا، والملاحظ ان جميعهم اندمجوا في مرحلة النضال المكيف، نضال مؤسسات المجتمع المدني خلال العشرين سنة الاخيرة، ولنسأل انفسنا ماذا حدث ولماذا تعطي مؤسسات فورد مثلاً الى صفوة نشاط اليسار اموالاً كي يجلسوا خلف المكاتب، ولنتأمل ايضاً النتائج: هل تلك المؤسسات اضافت شيئاً او قللت القهر السياسي والاجتماعي؟ الاجابة لا. عندما تعلم أن شركات دواء عالمية تمارس تجريباً على شعوب بالكامل، هل هذه مؤامرة؟ نعم مؤامرة، عندما تخرج معلومات تؤكد أن الحرب القائمة هي جزء من محاولة فرض ثقافة وهيمنة وسلع على شعوب بالكامل.
> الحراك السياسي في مصر أدى الى استقطابات عنيفة في اوساط المثقفين. كيف ترى ذلك المشهد؟
- ليس هناك استقطاب، اذا مشيت في الشارع من دون ميكروفون تلفزيون ستسمع آراء الناس في شكل حقيقي، ليس هناك مثقفون يدافعون عن الوضع الحالي.
> لكن الواقع يؤكد أن هناك قطاعاً لا بأس به يؤيد النظام السياسي؟
- حتى اشد المعارضين في الشارع لا يستطيعون ادعاء استقلالهم عن المؤسسات، هم يعملون بأجر ويدافعون عن مكتسبات واحتياجات متراكمة، لكنهم يسبون من الداخل كل ما يحدث.
> لكن المثقف ليس مستخدماً فقط، هو جزء من آلية انتاج خطاب سياسي وثقافي؟
- ليس العامل الحاسم هو المثقف في هذه المعركة، هذه المعركة تخص كتلاً جماهيرية بالكامل، وهي تنتظر لحظة ما على رغم إحساسها بتدهور الأوضاع.
> حركة «ادباء وفنانون» كيف تخرج من اطارها النخبوي ولماذا جاء التحرك متأخراً؟
- «أدباء وفنانون» جزء من الحراك العام ربما تختفي او تتفاعل وفقاً لمستوى الحراك في الشارع.
> أنت قليل الوجود في الفاعليات العامة، هل هذا نتاج لطبيعة انطوائية أم موقف؟
- انا فعلاً انطوائي، وطاقتي محدودة وأُرشد استخدامها للكتابة. كذلك وضعي الصحي لا يساعدني. الغياب لا يعني موقفاً، هو تعبير عن عدم قدرة لا اكثر.
> انت من اكثر المبدعين التزاماً ببرنامج يومي كيف تصف يومك؟
- لست ملتزماً كما يعتقد البعض، اصحو في التاسعة وأتناول إفطاري ثم استحم وأبدأ في العمل لساعتين. بعدها تأخذني مشاغل الحياة العادية، احاول ان انتزع من اليوم بضع ساعات للعمل.
> كيف تدير علاقتك بمشروع كتابة؟
- يبدأ الانشغال وتحدث ازاحات عدة له، لكن المشروع يستحوذ عليك ويتماسك وجدانياً فتبدأ في تسجيل ملاحظات، تقرأ عنه وتوسع دائرة مصادره ويبدأ التساؤل ما هي نقطة التفجير الرئيسة؟ ما هي الضربة القوية في تلك الفكرة؟ مع تسجيل الملاحظات فجأة تشعر ان تلك المرحلة قد انتهت وانك لو أطلت اكثر من ذلك ربما يضيع وقت، وهو قرار مركزي في اي عمل كيف تختار اللحظة التي تكتمل علاقتك به مع مساعدة ظروف اخرى مثل عدم وجود ضغط مادي وتوافر جزء من الامان المادي الذي يسمح لك بالجلوس والتفرغ، ايضاً اوضاعك الصحية تؤثر، فأنا لا اعمل نهائياً اذا ما اصابني برد.
> ما هي تفاصيل يومك مع بداية الكتابة؟
- الهروب من بعض الارتباطات العائلية والالتزامات، اصبح عصبيا قليلا، وتبدأ المشكلة في اول جلسة لأنها تكون شديدة العصوبة وربما يستمر الارق حتى ثالث جلسة فالبدايات دائماً أصعب اجزاء العمل.
> هل جاءت عليك لحظة انهكك فيها عمل فتركته على رغم احتشادك به؟
- حدث هذا في البدايات، لكن مع ازدياد التجربة نستطيع ان ننفخ النار في تلك الجذوة الداخلية للنص، وأمارس على ذلك الشغف نوعاً من الامتحانات المتتالية للتأكد من قوته، هل آراه في شكل سليم.
> انت اكثر ابناء جيلك تواصلاً مع الوسائط الجديدة خصوصاً الكومبيوتر. كذلك هناك عمل بحثي يصاحب كل انتاجك. كيف تلتقط مادتك وتعيد انتاجها؟
- تركت الورقة والقلم منذ 1994 وأكتب على الكومبيوتر، وعندما ابدأ في البحث اتحول الى كائن ذي قرون استشعار مستنفرة، الكتب والارشيف هي مصادري وربما تختزل الذاكرة طريقة مناداة شخص لآخر في الشارع فأحولها الى جزء من هذا الارشيف، التعليقات دائماً اكتبها على ورق صغير، وتبدأ مرحلة تصفية كل المادة المجموعة لأن سؤال استخدامها هو الاهم، مع المراجعة يبدأ الاستبعاد وهذه هي اصعب مرحلة.
> انت تمارس الكتابة الروائية الاحترافية. ما هي الشروط التي يجب توافرها في شخص قرر احتراف الكتابة، خصوصاً في ظل ظرف اقتصادي صعب كالذي نعيشه جميعاً؟
- الشروط أن تقبل بالحد الادنى للحياة، ألا تصبح لديك طموحات كبيرة في الانجاز المادي. كذلك عدم وجود مسؤوليات كبيرة. لو كان عندي ثلاثة اطفال لجريت خلف أي 100 جنيه، لكن لحسن حظي لم تكن لدي تلك المسؤوليات، وكلما طُلب مني عمل ما وضعته تحت تساؤل ما، هل بموافقتي على هذا العرض اسمح بأن استخدم في ما هو ضد قناعاتي؟
> ما هي علاقتك بالفضائيات والفيض المعرفي المتسع؟
- انطلاقاتي عكس ذلك تماماً، ما احتاجه هو ما ابحث عنه، لا اشاهد التلفزيون نهائياً، القراءة المنتظمة والبحث عن المعلومات على الانترنت، وعندما يشغلني عمل ما تتوجه كل حواسي له، عندما قدمت بروفة «ذات» الى الناشر تخيل أن لدي سكرتيرة شخصية قامت بجمع كل هذه المادة، طبعاً لا املك هذا الترف.
> هناك مشهد روائي مصري ثري، ما السبب في اعتقادك؟ وما تقويمك له؟
- سببه الرئيس ان هناك جيلاً جديداً يحمل حكايته الشخصية ويحاول ان يقدمها خصوصاً مع اضمحلال خطابية الشعر واختفاء القصة القصيرة والمشهد بمجمله حافل بالتنويعات فالتجريب أهم مميزاته تقنياً، كذلك الانشغال بأفكار جديدة سيكولوجياً مثل حالات الروايات التي تتحدث عن الفصام وهي تعكس حالة اجتماعية خاصة، نجدها لدى أحمد العابدي وياسر ابراهيم. هذا الجيل تمرد كذلك على عدد من التابوات الضخمة وأدهشني محمد هاشم في روايته الاخيرة. كذلك يضم المشهد اصواتاً واعدة مثل ايهاب عبدالحميد، هناك زخم متداخل الاجيال وليس مقصوراً على جيل يعيشه.
> ما هي آخر قراءاتك وهل هناك مشروع رواية جديدة؟
- قرأت آخر روايات امبرتو ايكو ولم تعجبني لأنها سيرة ذاتية جداً. وندمت على قراءة رواية باولو كويلهو «11 دقيقة». وانهيت كتاباً بعنوان «ذكريات القدس» لسيرين حسين شهيد. وأعكف الآن على عمل جديد اتمنى أن يصدر نهاية هذا العام.

حوار مع خيري شلبي بجريدة الحياة اللندنية

«ما مزقته من أعمال يفوق ما نشرته» ... خيري شلبي: لا أهاجم النقاد... أهاجم عدم وجود نقاد أصلاً
القاهرة – هاني درويش الحياة - 28/03/06//
خيري شلبي روائي مولع بالثقافة الشعبية. صاحب «وكالة عطية» حكاء متميز النبرة تتنقل أعماله بين القاهرة والريف المصري. هنا حوار معه:
لم تكتب كل ما تريده نتيجة محاذير رقابية أصبحت جزءاً من تركيبة المبدع، صحيح؟
- ليس بسبب المحاذير الرقابية الدينية. انا فعلاً لدي مشاريع عدة أحجم عن الخوض فيها لان المجتمع المصري ما زال يتعامل مع العمل الإبداعي بنضج قليل، لأننا مجتمع تحكمه تقاليد موغلة في القدم، وحدثت تغييرات كثيرة وان كان قد تعلم الجميع في الجامعات فهذا تقدم شكلي، وما زلنا بعد كل هذا التعليم أسرى معتقدات لا يسهل الخلاص منها. مأساتنا أننا لم نصفِّ الذات الثقافية اولاً بأول عبر العصور المختلفة، ينشر ممثل أجنبي مبادئه يختفي ثم تأتي حكومة وتنشر ثقافة وتختفي، هذا الخليط من الأفكار لم يجد من ينقيه من تعارضاته وشوائبه. الطبقة الوسطى في الماضي كانت تلعب دور «الفلتر» الذي يتصدى لكل ما هو شاذ وغريب يزلزل كيانها ويهدد قيمها. هذه الطبقة اليوم سقطت، مع ملاحظة أنها لم تستطع ان تنجز مشروعها الخاص على مدى التاريخ، كانت دائماً صاحبة الحلول الموقتة، فبقي المجتمع المصري تشوبه التراكمات الثقافية المتناقضة التي تفعل فعلها في الوجدان المصري وتؤثر في شكل سلبي.
> ألا ترى في هذه الرؤية تشكيكاً في تاريخ الثقافة المصرية حتى في اكثر لحظاتها اشعاعاً؟
- لم يكن عندنا ثقافة حقيقية حتى اليوم. الثقافة لا تسمى ثقافة الا عندما تتعرض للراسخ من العادات والتقاليد وتحللها من وجهة نظر مستنيرة، وهذا عندما يحدث نعيد الجدل والتحليل فيظهر طقس من الوعي العام يرفض ما ليس ينفع، هذا بمجمله لم يحدث في أي لحظة تاريخية، ومن ثم لا تستطيع الحديث عن ثقافة ما، لدينا نشاط ثقافي هناك، من يكتبون الشعر والرواية والمسرح، وهناك ممثلون، ومخرجون، مجرد انشطة وليست ثقافة حقيقية. الثقافة الحقيقية لا بد أن تكون وطنية اصيلة، تبحث عن التغيير في ذوق المواطن نفسه، كيف تضعه في قلب العصر، اذا حدث هذا تستطيع ان تتحدث عن ثقافة لا نشاط ثقافي.
> لكن ألا ترى أن ذلك قد حدث في لحظة تاريخية حتى ولو سابقة؟
- للأسف هذا لم يحدث، لأن الكفاءات الناضجة والمواهب الصالحة التي تعمل في الأنشطة الإبداعية، هذه العناصر يضطهدها المجتمع قبل المؤسسات السياسية والرقابية، المجتمع يقدم قارئًا ليست لديه ثقافة القراءة الروائية، فيخلط ذلك القارئ بين الكاتب والراوي، ويناقش الكاتب في احداث «الحكاية» كما يعتقد، يدمغ الكاتب بصفات أبطاله، كذلك لا يملك القارئ ميزانًا حساساً لقياس الأدب. اذا ما وصفت شيئاً داخل الممالك ربما يؤخذ ذلك عليك. انت اذا قدمت شخصية ملحدة أو مؤمنة قدمتها بكل ملامحها، فإذا ما قالت تلك الشخصية رأياً ما في الدين والجنس أو السياسة حوسبت عليه كأنك قائله. اذا اخرجت الآلاف العدة التي تستهلك الأدب والفن عن الملايين من حولك، سترى المشهد الحقيقي للثقافة. الاحظ ذلك في الندوات العامة التي يتوافر لها مجموعة من المتحدثين بلغة أهل الصيغة الثقافية، فإذا ما خرج من بين الجمهور من يتحدث لغة بسيطة، رأينا التعالي عليه رغم انه هو المستهدف الحقيقي بهذه الندوات.
> ألا ترى ان المشهد من هذه الزاوية يؤكد حالة احباط عام لدى المثقفين؟
- ليس احباطاً، الاحباط لم يسيطر على رؤيتي، لأنه لو سيطر الاحباط عليَّ ما قامت لي قائمة، تاريخي الإبداعي هو مقاومة لإحباط المجتمع، لماذا اذا يكتب الانسان، لماذا تستعبدنا الكتابة اذاً؟
> أنت ترى الحركة النقدية توقفت بعد اسماء بعينها كمندور وعلي الراعي ولويس عوض، وتهاجم انتهازية النقاد اليوم مؤكداً أنهم لو كتبوا عنك الان سيفسدونك فما تعليقك؟
- أنا لم أقل هذا. قيل ذلك في إطار تقديم خيري شلبي لشهادته في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة. انا لا أهاجم النقاد، أنا اهاجم عدم وجود نقاد أصلاً. بعد هذه الاسماء التي ذكرتها نحن نفتقر لما يناسبنا من النقاد، المسرح ليس له نقاده، المسرح نفسه تعرض للضرب منذ السبعينات، كذلك تسرب ممثلو المسرح الى التلفزيون، وفي السبعينات ضُربت الحركة النقدية مع تحول المثقفين على لسان الرئيس الى «افندية» وأهينوا في خطاباته فتكسرت هيبتهم، فهاجر 90 في المئة من الطاقات المستنيرية إما لبلاد النفط وأما للغرب، فانقطعت الصلة بين الطاقات المستنيرة، فلم تجد الأجيال الجديدة نقادها في ما عدا نقاد الحياة الجامعية اي اساتذة الجامعات وهم غير مقيدين لأنهم يكتبون محاضرات نقدية وليس نقداً جمالياً. اساتذة الأدب حمّلوا النصوص فوق طاقتها واستخدموا النظريات الغربية من دون روح.
> لكنك كنت ابناً متأثراً بتشيخوف، ودوستويفسكي، ومكسيم غوركي، لماذا تنكر على النقاد تحليلهم للنصوص وفقاً للنظريات الحديثة خصوصًا وأن الكتابة تستفيد اكثر من غيرها باتساع الوسائط والترجمات؟
- أنا لا أهاجم أحداً، هذا مجرد تفسير، مدرسو الأدب ونقاده الجدد مع احترامنا لمجهودهم، لكن نقدهم لا يتفاعل مع الإبداع، كما أن لغتهم لا تصل الى قراء الأدب الذين ليسوا من خريجي الجامعة، وان اتسع المشهد لنقاد من خارج كليات التخصص مثل فاروق عبد القادر وعبدالرحمن الابنودي وابراهيم فتحي وفريدة النقاش احياناً، لكن فاروق عبدالقادر له مزاج خاص في اختياراته لا تستطيع ان تفرض عليه كتاباً، وله الحق في اختيار ما يريده، هو يفعل ذلك بكفاءة عالية. صبري حافظ نقدره لاهتمامه بالكتابة الشابة وهو يتميز بالاضافة الى كونه استاذاً للأدب بكونه كاتباً مهماً، يكتب من دون أن يفرض على العمل مصطلحات أجنبية. ابراهيم فتحي ربما يكون هو الناقد الذي نحن في احتياج اليه، لأنه يكتب من الزاوية الجمالية خصوصاً الجانب التقني فنحن نرى جماليات العمل من خلال تقنيته وهو النقد الذي أفضله.
> أنت من أكثر المبدعين احتفاءً بالأصوات الجديدة. هل يمكن الحديث عن مشهد روائي مصري جديد؟
- في السنوات العشرين الأخيرة هناك نقلة روائية بعد أن استطاع جيلنا ان يروج للرواية فهو المسؤول عن تلك الدفعات من الروائيين الشبان، نحن أحدثنا قلعة اسمها الرواية المصرية، نحن الآباء الشرعيين لهذه الأجيال وهذا ما لم يحدث في الاجيال السابقة. هم ليسوا لقطاء، وممن أحبهم سهير المصادفة، حمدي أبو جليل، ياسر ابراهيم، ياسر عبد اللطيف، ميرال الطحاوي، أمينة زيدان، نجوى شعبان وكل منهم لديه مزاجه الخاص.
> لكن لماذا دائماً نتحدث عن مشهد روائي بينما تختفي بقية الفنون الكتابية الأخرى؟
- لأن الرواية فن شعبي طوال تاريخها، هي ضد الارستقراطية رغم كونها ابنة للبرجوازية لكنها في مصر ابنة شرعية للسيرة الشعبية التي دربتنا على الانصات ومتابعة الحكاية، لكننا مع الأسف لم ننجح في تطوير تلك التقنية لتدريب جمهور واسع على التلقي.
> أنت في أعمالك الأخيرة تمارس تجريباً على الزمن، ما هي متطلبات ذلك؟
- الزمن طالما كان من أولوياتي، خصوصًا وان أعمالي تحوي اهتماماً بالمكان، والمكان هو ما يحتوي الزمن، عشقي للمكان يجعلني اتابع الأزمنة المتعاقبة عليه.
> لمناسبة المكان، تجولت بين القاهرة ودمنهور وتعددت مطارح سيرتك، كيف اثر ذلك في اختزالك تفاصيل داخل أعمالك الروائية؟
- عيشي طفولة مشردة في الشوارع اكتسبني حاسة الانتباه لكل ما هو حولي من صوت وضوء وبشر. ولدت في بيئة منزلية مثقفة، هذه الظروف كتبت لي تجارب مكثفة في زمن قياسي، في دمنهور كنت أدرس منفرداً متحملاً أعبائي.
> شظف العيش قرَّبك من الإبداع لكن هل كل فقير قادر على الإبداع؟ ما هي المعادلة؟
- ليس كل من تعرض للشقاء يصلح كاتباً، الفطرة هي الأساس، مثلاً عم احمد صديقي تاجر السمك لم يدخل مدرسة لكن لديه موهبة مذهلة، طريقته في التعبير، في النظر، في الحياة، والبشر، هذه موهبة كاتب مفطور، وهو موديل روائي لي عندما اكتب عن صعيدي، هو مرجعي لكتابة ملامح شخصيات كثيرة. عندما كنت صغيراً درست «علم الفراسة» من مكتبة ابن عمي، وعندما بدأت دراسته فوجئت بقدرة العرب على التقاط روح الشخصيات من التفرس (أي النظر) الى الوجوه، واستفدت من ذلك في تطبيقات عملية كنت أقوم بها في مدرسة القرية، إضافة الى تجربتي منذ الصغر مع عمال التراحيل (عمال يعملون باليومية في المزارع في أعمال زراعية، ويترحلون من مكان الى آخر) وقد كانوا أكبر مدرسة في حياتي، وساعدني ذلك على تكوين خبرة حب للبشر، فطاقة الحب تجعلك في مستوى قامة كل البشر، فإذا تعاليت على أحد اعلم انك أصبحت قزماً، وهو ما اكسبني محبة الكائنات الضعيفة. والإشفاق هنا حتى على الكائنات المزرية علم وممارسة، والكاتب الحقيقي لا بد أن يتحلى بالصبر والسماحة كي يخلع اشد الناس ضراوة قناعه أمامه، وهذا التدريب جعلني الآن قادراً على سبر أشخاص بمجرد النظر اليهم.
> كتبت نصاً بليغاً عن محنة مرضك الأخيرة، هل تصف لنا كيف تخليت عن عادات اصيلة مع دخولك تلك المحنة؟
- أنا شخص كثير المضي في كل رغباتي حتى النهاية. عندما جلست في المنزل منذ عام 1990، مع ظروف عائلية، أدمنت الشيشة واستعبدتني فلم أحس بخطرها إلا عندما أصبت بتضخم في الرئة، عاجزاً عن التنفس، صرت مجبراً على الإقلاع عن التدخين. وكان عليَّ ان اخضع الانسان الجامح داخلي لتأديب، خصوصاً وأنني مدرب على الاستغناء طوال حياتي، وظلت آخر علبة سجائر موضوعة على مكتبي ومفتوحة حتى الآن، لأني أعرف نفسي لو رميتها بعصبية ربما أعود اليها. ووصف لي الطبيب المعالج المشي، كنت كمن يتعلم المشي للمرة الاولى، فكتبت ذلك النص عن تلك المحنة.
> لك رأي شديد القسوة في كتابة المبدع السيرة الذاتية، أليس المبدع أحق من غيره بما يعيش من ازدواج بين المتخيل والواقعي في أن يكتب سيرة ذاتية؟
- أي مبدع يدعي أنه يكتب سيرة ذاتية هو كاذب. السيرة الذاتية حق للزعماء والرؤساء لأن لديهم ما يحكونه للعالم. اما المبدع فهو حين يحاول كتابة سيرة فسيكتب شخصية جديدة، كذلك ربما يضر بالعالم المحيط به، فمن اعتاد على التخيل مستحيل أن يكون أميناً مع ذاته والآخرين. ومثال على ذلك سيرة توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق»، لا أظن من قرأها يستطيع التأكد من كون هذا توفيق الحكيم الحقيقي.
> تشكك في بعض الجوائز وتمدح البعض الاخر، ما هو معيارك؟
- الجائزة لا تسمى جائزة اذا ما أضطر المبدع الى التقدم اليها. هي في هذه الحالة مسابقة. وأي كاتب يحترم نفسه لا يتقدم الى سباق، لأنه سيخضع إبداعه لشروط التسابق، والجائزة الحقيقية تفاجئ المبدع. وان كنت عضواً في بعض المسابقات فإن ذلك يرفع من مستوى المسابقة ليجعلها بمثابة الجائزة لأن مستوى لجان التحكيم يرفع احياناً من مستوى المسابقات.
> كيف تمارس فكرة عمل جديد جدلاً معك وكيف تدير علاقتك بالنص الروائي؟
- عملية الإبداع عملية سرية لا تخضع لقانون جازم. أحياناً ابدأ كتابة عمل وأصل الى نقطة فأتوقف، وتخرجني فكرة لكتابة عمل جديد مختلف تماماً، جذور أي عمل تنمو بمعزل عن كاتبها وتلح عليه ليكتبها، وعندما ابدأ الكتابة أدخل بئراً عميقة فأنفصل عما حولي، وتزودني اسرتي بالقهوة، والشاي، في منتهى الهدوء، واحياناً ما يوقف الكتابة صوت نافر من الخارج، واحياناً اتوقف بفعل السأم. ساعتها اقوم واتحرك قليلاً وأصنع شاياً، لأعود وكأنني ولدت من جديد، وتتبدد ظلمة التوقف، تصاحبني في وقت الكتابة كتيبة من الاصوات الغنائية في مقدمها محمد قنديل وسعاد محمد وليلى مراد ومحمد عبد المطلب وحين التوهج في الكتابة لا يعلو صوت فوق السيدة فيروز فهي قرينة الخيال ومشعلته، لا اصدق احياناً أنها صوت بشري، فهي كمان طائر يخاطب الاحساس والقلب لا الآذان. اما عن طقوس الكتابة فأنا فلاح لا أتعامل مع أجهزة الكومبيوتر. لدي 40 قلماً من افضل أنواع الاقلام الحبر، واكتب في كشكول كبير. بعد نهاية الكتابة الأولى للعمل (قماشته الأولى) اتركه لمدة شهرين، ثم افصلها لتصلح رواية أو قصة طويلة وأحياناً اكرر الصياغة الثانية 40 مرة، فأول كتابة تجميع لخيوط سردية. الكتابة الثانية اقرب الى التوليف بين كل تلك الخيوط، وفيها تهذيب العمل مما قد يمارس عليه اي تشويش فيبقى منه فقط ما هو متماسك وأصيل. واحياناً تختلف النسخة الأخيرة عن المسودة الاولى وكأنها رواية أخرى. وربما أرمي النسخة الأخيرة فعدد ما مزقته من أعمال يفوق ما نشرته.

المرأة والجنون في القرن التاسع عشر

كتاب يكشف كيف كانت النساء أولي ضحايا الحداثة الاوروبية في الطب
الجنون والمرأة في نهاية القرن التاسع عشر
هاني درويش
من الإصدارات الهامة التي يقدمها مركز قضايا المرأة والذاكرة مجموعة من الكراسات البحثية التي تتناول وتعالج قراءة التاريخ الثقافي العربي من منظور يأخذ في الإعتبار التشكيل الثقافي والاجتماعي للجنسين، بحثا عن إعادة التوازن المنشود بسبب عملية الإقصاء المتعمد التي عانت منها النساء والفئات المهمشة في المجتمع،ولا يخفي علي أحد أن ذلك الهدف يواجه الكثير من الصعوبات بحكم ما يترتب علي ذلك من زعزعة لمفاهيم راسخة في العادات والتقاليد والموروث الديني، وفي آخر إصدارات المركز حاول الباحثان د. هدي السعدي ورمضان الخولي الاجابة علي بعض الاسئلة الحرجة التي تتعلق ببدايات تكريس النظرة الدونية والاستعلائية ضد المرأة في نهاية القرن التاسع عشر ، وذلك في مجال طبي واعد في تلك الفترة وهو مجال الطب النفسي ، فكما هو معروف وقدم له الباحثان أن المجتمع المصري عرف مستشفيلت (بيمارستانات) الصحة النفسية في عصوره الاسلامية المتأخرة وهي الاماكن التي أنشأها الولاة لعلاج مظاهر العلة النفسية ، فيقدم الكراس كيف كانت النظرة المجتمعية للمريض النفسي أكثر تسامحا وأنعكس ذلك في إختيار الجهات الحكومية أماكن مزدحمة لإقامة تلك المستشفيات ، فكان أحدها يحتل ميدان الازبكية (سرة قاهرة محمد علي وحي الطبقة البرجوازية في ذلك الوقت) ، وهو مايعني ضمنيا عدم تعامل المجتمع مع تلك الفئة من المرضي بروح إستبعادية ، وشكلت مجاورة تلك المستشفيات للمستشفيات التي تعالج أمراضا أخري تأكيدا علي قيم ثقافية لاتضع المريض العقلي في جانب المنبوزين إجتماعيا وثقافيا، وهو الأمر الذي إختلف تماما مع بداية تبني النخب لأنظمة الحداثة الطبية الوافدة مع الإحتلال اللإنجليزي عام 1882، حيث عمدت المؤسسات الإنجليزية الوافدة وبإسم الحداثة الطبية غلي التعامل مع المرضي العقليين كأفراد يمثلون خطرا شديدا علي المجتمع السليم عقليا خاصة مع شيوع نظريات العنصرية العلمية ، فيقدم الكراس كيف إنتقلت المؤسسات الجديدة بمستشفيات المرض العقلي إلي منطقة العباسية الجديدة المحاصرة بمناطق عسكرية تابعة للجيش الانجليزي ، أو العزل في منطقة الخانكة شمال سرق القاهرة علي تخوم الصحراء في محاولة للفصل الديموجرافي عن مجتمع العقلاء ، مما قطع علاقات المرضي بزويهم ، وتلفت الكراس الانتباه إلي ان ذلك لم يحدث أتوماتيكيا إلا بمساعدة نخبة من الالاطباء المصريين الذين تعلموا في أوروبا ، وعادوا بمناهج البحث العلمي السائدة في تلك الحقبة والتي عملت كغطاء علمي لذلك التحول في النظرة المجتمعية للمريض العقلي ، وتقدم الباحثة هدي السعدي قراءة هامة في ثلاث مؤلفات ظهرت نهاية القرن التاسع عشر لأطباء مصريين ، وهي " أسلوب الطبيب في فن المجاذيب " للدكتور سليمان نجاتي ونشر سنة 1896، وكتاب " صحة المرأة في أدوار حياتها " للدكتور أحمد عيسي ونشر سنة1904، وكتاب " طب الركة " للدكتور عبد الرحمن إسماعيل ونشر سنة 1894، وقد أوضح هؤلاء الثلاثة في مقدمات كتبهم أنهم مسؤلون عن إدخال الاعراف الطبية الاوروبية إلي المجتمع المصري من أجل إخراجه من الظلام إلي النور ، وهو الامر الذي إعتبروه مهمة وطنية جليلة ومسؤلية ملقاة علي عاتقهم من أجل خير شعبهم ، لكنهم وهم يفعلون ذلك تبنو وجهة نظر الرجل الغربي الأوروبي.
الكتاب الاول " اسلوب الطبيب " يعد أول كتاب في طب النفس باللغة العربية ، ومؤلفه هو أول مصري يمارس الطب النفسي ويقوم بتدريسه في مدرسة الطب ، لكنه عند تقسيمه للإمراض النفسية يري أن بعض اللأمراض لاتصيب إلا المرأة ويري أن تلك الأمراض العقلية ترتبط إرتباطا وثيقا بالتركيب البيولوجي للمرأة، فالتغيرات الفسيولوجيية تؤدي إلي تغيرات في الحالة العقلية للمرأة خاصة فترات الحيض الشهرية معددا أشكال الاضطراب العقلي لها والتي تصل إلي المس والملنخوليا ، وإن نجت من جنون الحيض فهي مهددة بالإنهيار العقلي والزهان في فترات الحمل والولادة والرضاعة ، وهي كذلك معرضة إلي هلوسة ونوبات هيجان في فترات خلل الرحم وإنقطاع الطمث ، أو بمعني أدق فحياة المرأة كلها علي محك المرض العقلي ، فهو بذلك يغطي حياة المرأة بطولها ، ويصل إلي نتيجة مؤداها أن المرض العقلي يصيب المرأة أكثر من الرجل ، بل ويصل إلي نتيجة تؤكد أن إمكانية توارث المرض العقلي تتضاعف لدي الامهات ثلاث مرات مقارنة بمعدل وراثة المرض من الاباء ، بمعني أخر أن إحتمالية زيادة المرضي العقليين تأتي من الأمهات لامن الأباء .
ثاني الكتب " صحة المرأة في أدوار حياتها " يطبق النظرية الداروينية لتعميق تلك الأفكار عن إنحطاط المرأة الطبيعي داعما نظريته المستوردة بالإدلة والقراءات الدينية التي يؤو لها لخدمة تطبقاته مستشهدا بآيات القرآن التي نزلت في حمل المرأة، وثالث الكتب "طب الركة " يمارس نفس التفرقة حيث يجرم الطب الشعبي "الركة" الذي كانت تمارسه النساء العجائز متهما النساء بأنهم مصدر الخرافات قديما وحديثا، علي الرغم من كثيرا من فنون الطب الشعبي كانت تتعامل مع الامراض العادية بأساليب ثبت لاحقا جدواها .
وتصل الباحثة إلي نتيجة مؤداها أن الخطاب النفسي في آواخر القرن التاسع عشر في مصر كان إعادة صياغة للأعراف والنظريات الغربية، فلقد عظم الأطباء المصريين المعايير الغربية وهاجموا بضراواة الأعراف المحلية ودعمت ذلك الدراسة الإحصائية بالكراس التي قدمت قراءة وتحليل إحصائي لبيانات مستشفي الأمراض العقلية بالعباسية عند بداية القرن العشرين ، أي في الوقت الذي ترجمت فيه تلك الافكار في الممارسة العلمية ، حيث ترصد الدراسة زيادة في أعداد النساء المدعات بالمستشفيات ، وكذلك أعداد المتسربات من المستشفيات ، و نوعية الخدمات المقدمة لهن مقارنة بالمقدمة للرجال،و أخيرا عدد العاملات من النساء بالمستشفي مقارنة بالرجال ومستوايتهن الوظيفية المتدنية مقارنة بسلطة الآطباء ، وهو ما يؤكد أوجه التمييز ضد المرأة مريضا ومعالجا

أما الدراسة الثانية بالكراس فقد قدمت دراسة قانونية لإوضاع النساء ةالجنون في القرن التاسع عشر حيث يصل الباحث إلي نتيجة مفادها أن المؤسسات القضائية ذات الثقافة الإسلامية لم تتقبل تلك الأفكار وقللت من الدور التميزي الذي لعبته المؤسسة الطبية الغربية الوافدة فلم نجد حكما قضائيا تميزيا يفرق بين الرجل والمرأة علي أساس الصحة العقلية وظل قيول القضاة لتقارير الأطباء حق للقاضي والذي غالبا ما كان لايعتد به

ومن اليسار ما قتل .... سيرة بلا مسيرة

ومن اليسار ما قتل ...سيرة بلا مسيرة(الحلقة الأولي)

توني كليف وبقرة عبد العاطي
هاني درويش

الكتاب علي هيئة ورق مصور كان يحوي الكثير من بقايا من قرؤوه قبلي، وضعوا خطوطا تحت بعض السطور بما يعني أهميتها ، لم أكن في إحتياج إلي خارطة طريق فالكتاب المخطوطة كان يحوي عالما غريبا من الحقائق التي تحدث بها توني كليف عن ما أسماه وعنون به كتابه رأسمالية الدولة في روسيا ، عرفت من مسؤلي المكلف بضمي للمجموعة بأن هذا الكتاب هو إنجيل إنضمامي للمنظمة الثورية التي يعمل بها، كان من الصعب علي وأنا من بقي ماركيسيا أول التسعينيات أن تصدم قناعاتي هكذا بالدولة الحلم والتي كنت أنبري مندفعا أمام رفاقي بالمدرسة للدفاع عن معالم إنهيارها التي كانت تتأكد اليوم تلو الأخر ، لم أستسغ كذلك نظريات أبي التأمرية عن دور السي آي أيه في إنهيار تلك الإمبراطورية، وعندما شاهدت تلك المعاول المهووسة وهي تسقط بقايا حائط برلين حضرت نفسي لإبتسامات السخرية التي ستصفع وجهي في اليوم التالي في المدرسة، كان صديقي الذي يكبرني بنحو ست سنوات قد إختفي من حياتي تماما بعد إسبوع قضيناه معا بمعسكر طلائع حزب التجمع، هاهو يعاود الظهور في حياتي لينقذني من ضلال الكفر بالماركيسية بعد لقاء سريع علي هامش أحد عروض السنيما بالمقر المركزي للتجمع بميدان طلعت حرب وسط العاصمة ، سألني في البداية عن أخباري وعن الفتاة التي كنت أحبها طفلا بمعسكرنا الرائع، لم يندهش لكونها قد تزوجت مبكرا مثل الفلاحات وتحجبت علي الرغم من كون أبيها أحد كبار موظفي الحزب ، أسر لي ليلتها بأن زواجها كان تسترا علي فضيحة أخلاقية كبري أطاحت بالفتاة وأبيها من المقر المركزي إلي مقر الحزب بالضاحية الشهيرة جنوب القاهرة، سألني يومها عن علاقتي بالمصري ( يقصد الحزب الشيوعي المصري وهو الحزب الأكبر في الأحزاب الشيوعية المصرية السرية وكان يتخذ من التجمع كحزب علني واجهة شرعية لكوادره ) وإن كانوا قد ضموني إليهم بحكم كون والدي أحد الكوادر بالحزب الواجهة ( التجمع )، وعندما أنكرت عن نفسي وعن والدي تهمة الإنضمام لأكثر الأحزاب السرية إنتهازية ، فاتحني هو عن تاريخه في حزب 8 يناير ثم مسيرته في حزب الشعب ، إنتهت مقابلتنا الأولي بضرورة البحث عن بديل( وهي المهمة التاريخية لأي ماركسي في أي ثقافة وفي أي لحظة من التاريخ وفي أي إستراحة بين كوبين من القهوة ) ، خرجت يومها من تمشيتنا الطويلة علي كورنيش النيل محلقا بأحلام البديل ، بدت كلمات عادل تحمل أسئلة تبدو إجاباتها تؤدي إلي طريق ما، وكأنه أحد الحواه الذي يدفعك للتشويق من لعبة إلي أخري ، يخرج أولا حمامة من منديله الأبيض ثم باقة من المناديل الملونة من كفه الممدودة الخالية ، ثم فجأة يشركك في لعبته فتخرج البيضة من خلف أذنك ، لم يبق إذن إلا تسمية البديل ، وتبرعت ليلتها بتقديم ملامحه عندما تحدثت عن ضرورة مراجعة الخطأ السوفيتي برؤية أكثر ثورية ، أجل هو ساعتها الإجابة إلي الحلقة القادمة كما في المسلسلات البوليسية وبتنا علي موعد بعد ثلاثة أيام .
كنا في العام الثاني من التسعينيات الشقية ، تنتابني حمي البحث عن أشياء كثيرة أفتقد الآن تلك الروح الإسنفنجية لتشرب تفاصيل الحياة ، كنت أعمل منذ ثلاث سنوات في فترة الإجازة الصيفية في كل أعمال الحرف اليدوية، البكر وعلي عكس المألوف كثيرا مايدفع ثمن أخطاء الاسرة كبيرة الحجم ، كنت قد نزلت للعمل اليومي خلال فترة إعتقال والدي أعقاب أحداث إضراب عمال السكك الحديدية نهاية الثمانينيات، أحسست وقتها ماذا يعني أن تكون عاملا وفقيرا، لكن ذلك لم يبرر لي سرقة عمال شركة مصر للمستحضرات الطبية لمستلزمات عملهم ، كنت صغيرا لاأعلم ما هي الحكمة في التفتيش الشخصي عند إنتهاء نوبة العمل في الرابعة ظهرا، ما دام العمال يقذفون بأكياس المضادات الحيوية والفيتامينات من أعلي سور المصنع أثناء الدوام ، كما لم أفهم الحركة النشيطة للعاملات في خلفية اتوبيس المصنع وهن يستخرجن حصيلة اليوم من أمبولات الأنسولين ، كان لكل أتوبيس معاون الحركة الذي يتسلم من الجموع مسروقاتهم ليصرفها إلي الصيدليات بطرقه الخاصة ، كنت أعمل في قسم ادوية الشراب ، تحديدا علي خط إنتاج مستحض توسيفان إن ، لم أفهم الحكمة من خلو فترات الراحة وهي ساعة من الثانية عشر إلي الواحدة من أي كوب للشاي فالعاملون بالقسم كانوا يتعاطون التوسيفان إن بديلا عن الشاي والقهوة والماء ، كانت كل مهمتنا تتلخص في تحميل كاراتين المستحضر المعدة للبيع ونقلها بعربة حديدية إلي أسفل القسم ، وكان من الطبيعي أن تسقط إحدي الكراتين بين كل كرتونتين في التحميل بفعل العبث بين العمال ، مع الوقت أدركت أن العبث نظام متفق عليه لإفساد أكبر قدر من العبوات ومن ثم يتخذ العمال من المسافة الطويلة بين الطابق الخامس والأرضي داخل الأسانسير ساترا لتمزيق العبوات التي بدء تسريب أحمر يحتل جوانبها ، يقومون في تلك المسافة الطويلة مع بطء النزول بإحتساء العبوات في مشهد وحشي ثم يوزعون الزائد منها بالتساوي بينهم بينما يتكفل سقف المصعد المفتوح بالتخلص من الزجاجات الفارفة التي سرعان ما نسمع تهشمها البطيء مع وصول المصعد إلي الدور الأرضي، سأحتاج إلي سبع سنوات قادمة كي أفسر هذه المشاهد اللآهية ، ففي ليلة من ليالي النضج المتأخرة سأشاهد رفاقي بالجامعة يقتحمون الصيدليات للحصول تحت تهديد السلاح الأبيض علي نفس الكرتونة بحثا عن كيف التوهان اللذيذ الذي دفع بالتوسيفان إن دواء أمراض الكحة إلي جدول المخدرات الكيميائية الخطيرة التي تطاردها الدولة ، فثمن العبوة البالغ خمسة عشر قرشا في بداية التسعينيات سمح لجيل جديد بالدخول السريع في دائرة الإدمان، وصلت عبوة ال إن ( هكذا أصبح إسمه بين اهل الكيف ) إلي عشرون جنيها ، وإختفي نهائيا مع خصخصة المصنع الشهير، وبقي رهنا لروشتة الأطباء الذين نادرا ما يصفونه لأعراضه الجانبية الخطيرة، هذه المشاهد في تكية القطاع العام المستنزف بسرقة عماله ربما لم تخدش في أي لحظة نضالية الطبقة التي تشكل البديل فيما هي تموت في مشهد هيستريا أل إن وهي تكسر عبواته في الجوانب الخرسانية للمصنع ، ستبقي نضالية الطبقة قابلة للإستعادة بمجرد العودة للمنزل ومراجعة ما العمل للنيين، كان الأجر البسيط لعمال اليومية مثلي ( كنت أعمل طول الشهر مقابل 45 جنيها ) يقدم لي مبررا لفساد الطبقة التي أحلم بثوريتها ، لكني كنت في إحتياج لنموزج فارق لتأكيد معاناتها خارج رفاة القطاع العام الفاسدة ، قدم لي عبد العاطي فلاح بني سويف الرائع أعلي كوبري مراد حين كنا نعمل أنفارا نموذجا للحكمة اللينينية .
كنا تعمل كإحدي فرق سيزيف الأسطوري ، نقتسم إحدي البواكي الطولية للكوبري ، وننزع أحشاءه من الأسفلت الناحل كالرقع ، بعد أن كشف سطح الكوبري عن طبقة المعدن المخالفة للمواصفات ، بينما تسير المركبات في الباكية الموازية وهي تكاد تصدم مؤخراتنا، كنا نعمل علي ماكينة تسمي الرمالة، ندفع في إسطوانتها الواسعة بشكائر الرمل لتخرج الرمال مندفعة في خرطوم كومبروسر الهواء الساخن فتجلوا طبقات الأسفلت ويعود سطح معدن الكوبري لامعا، لم تكن مهمتي وعبد العاطي تقنية ، كل مهمتنا وثلاثة أنفار آخرون أن نلم ذرات الرمل المعبثرة بشظايا الأسفلت لنعيد نخلها وتقديمها لفهوة الرمالة ، المقاول يري العمالة السيزيفية أرخص من عربتين للرمل الطازج ، وعبر إثني عشر ساعة فوق الكوبري علينا أن نؤمن للرمالة المتوحشة رملها المنخول ، دون شربة ماء وتحت شمس أغسطس الحارقة ودون ساعة راحة وفي صراع مع تناقص حبات الرمل التي كنا ننفض وجوهنا منها ليس بحثا عن النظافة ولكن مخافة ان تنقص ذراته فنضطر إلي تحميل شكائر جديدة من أسفل الكوبري علي مسافة كيلو متر تحت سياط كلمات المقاول التي لا ترحم ، كانت اليومية البالغة عشر جنيهات في اليوم مناسبة لتجميع ثمن الملابس الجديدة في أول عام جامعي بالإضافة لمصروفات الكتب الدراسية ، لكنها لم تكن تكفي عبد العاطي الذي حضر إلي القاهرة منذ خمس سنوات يطارد حلم البقرة المسروقة، كان يتمدد في الليل أسفل الكوبري في ميدان الجيزة الصاخب ليل نهار وعلي مقربة من الأماكن المفضلة لمتبولي الليل، ويحكي من تحت غطاء المشمع الذي لف به جسده الرملي، يحكي عن تلك الليلة الفاصلة في حياته والتي طردته من فردوس قريته البعيدة، حين سحره قمر 14 هجري فنام أعلي الساقية يحلم بإبنة عمه ذات الأربع عشر ربيعا ، ولم ينتبه إلا علي صفعة أبيه يوقظه بعد أن سرقت بقرتهم الوحيدة من أسفله، طرده أبيه وهو في الثانية عشر ليعمل في القاهرة بحثا عن ثمن البقرة ، وكل عام يجمع ما إكتنزه من جنيهات قليلة وينزل السوق ليشتري بقرة أبيه فيجد أسعار الأبقار قد إرتفعت ، فينتطر لعام آخر وهكذا مرت خمس سنوات وهو يعمل بدلا من البقرة أو بحثا عن البقرة .
نقتسم رغيفا وثلاثة أقراص من الطعمية مع حبة طماطم وقرن فلفل وفحل من البصل حتي لا نكسر جنيه اليومية ، لم أكن في إحتياج إلي الإنتظار ثلاثة أيام علي مقابلة عادل، كنت أنتظر المقابلة منذ سنوات بعيدة فالبيضة لم تنتظر لتخرج من أذني ، كنت أرقد عليها منذ سنوات كثيرة وحان وقت أن تفقس
يتبع

إليكما - تعليق شخصي علي ما يدور في لبنان

إليكما.. ربما أستطع اللحاق بمدينة تحترق في مخيلتي
هاني درويش

لا أملك من شرف المحاولة للكتابة عنها إلا بالكتابة عنكما ، هي الصامدة ببهجة من إعتاد علي مقابلة الموت كمن يلقي علي جاره السلام صباحا ، هي رجع الأنين بالإنابة عنا ، هي بيروت التي تختصم يوما تلو الأخر من صمتنا المهين ، وأنتما رجل وفتاة بحجم وطن ضجر من التخفي في إستعارات الكتب وأغاني فيروز ، ملت بيروت مني بعد طول شوق ربيته علي هوادة منذ غلاف كتاب الصور الموثقة لمجزرة صبرا وشاتيلا الأزرق أول الثمانينيات ، وحتي إطلالتها بسحائب الدخان اللآنهائي علي شاشة الجزيرة، ملت مني المدينة التي أحلم بها من حين إلي آخر كما أحلم بحبيباتي الخائنات ، هن ربما يجدن مبررا بحجم الذكريات ، فما بال بيروت التي يحكي عنها وأ شاهدها في رجع صوتكما تؤرقني ، تجعل إمتداد البصر في صحراء تحيطني علامة للخجل ، الخجل من إنبساط أرضنا المسطحة التي تلوك مصائر أبنائها لقمة العيش المكدود والسهرة أمام فيلم عربي قديم ، ما بالي أتأمل فأتألم وتسحقني اللغة والصورة والنغم النشاز ، هل لأني أبن وطن مسطح علي الخريطة يفتقد إلي تضاريس الوادي والجبل والسهل والتعدد الأثني واللغوي والديني وكل كلمات العطف والنعوت المتعارضة والمتنوعة ؟ هل لأن مصر بنت الرحابة والبساطة والسكينة والوداعة تذيبني يوما تلو الآخر في أرقام تتدرج حتي السبعين مليون ، كم كنت أتمني ان أكون أبن بلد صغير وعلي الحافة كبلدكم ، ربما هي غيرة غير مسؤلة ومقحمة علي سياق يعلو فيه ضجيج الموت أعلي بناياتكم ، لكنها ليست مبالغة المزايدين ، أنت علي الأقل يا رنا حايك أذكرك بإتفاقنا علي تبادل الهويات الذي أسكر ضحكاتنا كثيرا ، هل تقبل ياحسن داوود دعة السكن أمام صحراء لانهائية وتقايض ببيتي بعض القذائف ، أغار منك ومنها وأخجل ، هل تقبلا أن تهباني بعضا من أحزانكم الشيعية الرومانتيكية بعد أن ضجرت من ضباب سبعين مليون سلفي برجماتي ، هل تهباني نافذة متسعة وكأس من العرقي أمام شارع تمر فيه فتيات جميلات يهربن من لحظة القصف، بعضا من صلاة مارونية في دير أعلي جبالكم التي تحترق حشائشها ، وكثير من الفخر بالإنتماء لسبعة عشر طائفة سأكون أنا طائفتها الثمانية عشر ، نازفا حتي الموت من حمي الأختلاف، سامحوني جميعا ولتسمحوا لي ولو لمرة بإسترداد فيروز ، بالحديث عنها وكأني أحد أقاربها البعيدين ، بالخروج ببيروت من هوس الكتب في طبعات الساقي ورياض الريس وسينما زياد دويري ورندا شهال وموسيقي زياد رحباني ، بالخروج من كل تلك الأرحام البعيدة إلي التسكع الحقيقي في الحمرا ، إلي مغامرة البحث عن السيد حسن نصرالله في حارة حريك والأختلاف معه ، في صعود الجبل إلي السيد وليد جنبلاط وسماع بعضا كاريزمته الخطابية ، هل تسمحي لي يا رنا حايك بمقابلة أبيك الخجول الرائع ، بتنسم جبهة أمك العريضة وتقبيلي يديها الصغيرة المدملكة ، وأنت يا حسن داوود هل تسمح لي بمتابعة خلاف عارض بينك وبين ندي ، أو تأمل حنانك الصافي علي فراس ، يالا أرق العيش في المخيلة ، لما تسألونني كيف تعيش بيروت هكذا حتي وأنت لم تراها ، كنت أربيها في المخيلة جامعا بين صور حسن داوود الصديق الذي بمثابة الأخ الكبير الأقرب إلي الأب وبين صور العزيزة رنا حايك الصغيرة والأقرب إلي الأخت ، تتمدد بيروت المخيلة بين جيلين من لحم ودم ، جيل الدم المسفوك والأحزان الصافية كما تطل من عيون حسن داوود ، وجيل البراءة المفعمة بحب الحياة الحاملة أحلام تفوق طاقتنا كما في إطلالة رنا حايك ، وأنا واقع بين الخاصرتين كفاصل فلكلوري من ثقافة مندثرة ، يخجلني مديح حسن داوود المشجع غير قادر علي أن أوفيه بعضا من حقه ، وتبهرني سذاجة رنا حين ينصب لها محمد خير كمينا في حكاية ملفقة ، هل تعلمون جميعا كم أبكي حالي عندما أتخيل ان المسافة بين القاهرة وأسوان بالقطار ربما تزيد عن زمن الرحلة الجوية من القاهرة إلي بيونيس أيريس ، ربما تستطيعون الألمام بطرفي وطنكما في ساعتين بجولة للسيارة علي كورنيش البحر فيما نقتتل في نفس الزمن للوصول إلي أعمالنا في يوم قاهري مزدحم ، هل هو الفارق في الزمن الداخلي ما يجعل المصريون يتعاملون مع ما يحدث لبيروت بدرجة تفاعل تساوي تفاعلهم مع إعصار تسونامي في إندونيسيا البعيدة ، هل تعرفين يا رنا حجم المسافة الفاصلة بيننا الآن ، هناك الخروج من القاهرة المختنقة إلي شبه جزيرة سيناء البعيدة ومنها وبعد ساعات من التضقيق الأمني ربما أدخل الحدود الأردنية بعد يوم، ثم هناك يوم آخر حتي الوصول الي دمشق ومنها إليكم في بيروت إذا لم يطل القصف مجنون مثلي يقطع الطريق بشكل عكسي ، هل تعرفين حجم التأشيرات المطلوبة ، كم عدد رجال الامن المتجهمين الذين سيسودون وجوهنا بإطالة التحديق ، من قال أننا وطن عربي واحد فهو كاذب ، كاذب بإتساع الجغرافيا وإمتداد التاريخ ، كاذب لأني لم أراه وطنا واحدا في أية لحظة ، بيروت الآن فيما تحفر قبور قتلاها طيارات جيش الدفاع الإسرائيلي تدفن معها آخر ما تبقي من إستعارة الوطن العربي ، لم يتبق من الإستعارة إلا رنينها الأجوف في قناة الجزيرة وبعد الأعمدة الصحفية ، سائق العربة البيك اب الذي أوصلني إلي المنزل ترجم الموقف إلي خسارة شرفية لمصر عندما أغرقت البوارج الإسرائيلية سفينة شحن مصرية تحمل أسمنت إلي سوريا الشقيقة ، متأسفا طالب السائق الرئيس مبارك بطلب تعويض من إسرائيل عن " فلوسنا اللي راحت " ناسيا أن مصر لم تطلب توضيحا حتي عن الحادث من إسرائيل وكذلك سوريا الشقيقة ، أصبحنا جميعا غارقين غرق السفينة التي لم تجد من يطالب بإستحقاقاتها ، بيروت أيضا تشبه هذه السفينة ، طالتها النيران بالوكالة ، عفوا بنصف الوكالة ، كل الأطراف تتعامل مع ما يحدث بنصف الوكالة ، حزب الله يحارب بنصف نضال ونصف وكالة ، والدول العربية تتنصل بنصف خزي ونصف وكالة ، وأمريكا والغرب يشجبون ويدافعون عن إسرائيل بنصف وكالة ، لهذا ستصطلي نيرانك يابيروت وحدها كسفينة إشتعلت في عرض البحر ولم يجدوا ماء لإطفائها ، لأن البحر قد جف فجأة ، لأن الصحراء إتسعت فتجاوزت المدي ، أكتب عنك يا سيدتي في المخيلة وعن أحبائي فيك، عنهم لعل تذكرتي لهم بحجم غيرتنا منك يعوضهم ولو قليلا عن خجلنا منهم ومنك ، لاتراهنوا علينا كثيرا فنحن في متاهات أوطاننا الكبيرة نتأقزم ، نصغر ونضيع فيما أنت حسن داوود ورنا حايك ومن خلفكم بيروت ومن خلفها لبنان كله تصبحون الدنيا التي حلمنا بها وأوطاننا التي عشقناها والبشر الذين كنا نتمني أن نكون .

الأربعاء، يوليو ٢٦، ٢٠٠٦

نافذة الروح

صورة المرأة بين الإعلان والأغنية المصورة
(نموذج حالة المخرج شريف صبري)

مقدمة:

ربما كان الإعلان على شاشة التلفزيون من أهم أدوات التأثير على المستهلكين، أكثر فاعلية من طرق إعلانية أخرى. ذلك لما يوفره الإعلان البصري من ربط مباشر بين المنتج ومستهلكيه، خاصةً إذا ما تضمنت دراما الإعلان القصيرة تماساً مع مشاهد حياتية مفترضة لمستهلكين. يعمد الإعلان بذل إلى تقديم واقع افتراضي موحي وحبب للحياة كما يراها المنتج والمخرج. ومن ثم فالإعلان بعد ذلك حامل لقيم ونسق أخلاق افتراضي، يتوازى ويتشابك مع واقع الأخلاق الحقيقي. إلا أن الإعلان دائماً ما يلعب دور رأس الحربة في تكريس ذلك النسق القيمي الخاص بالاستهلاك المادي، وبما يقدمه من دراما حياتية، يمارس تكريساً مضاعفاً لنمط القيم الأخلاقية، وإن كان يصبح بذلك سباقاً إلى وضع ذلك النمط في صورة بصرية موجزة وموحية ومكرسة في أبشع تجلياتها.

من ناحية أخرى يبدو أن نمط الأغنية المصورة يتجه ليصبح هو التطور النهائي للأغنية الموسيقية. حيث مع الربط بين الموسيقى والصورة كمنتج تسويقي، تنحو الموسيقى إلى أن تصبح خلفية في مقدمة كادر بصري بالأساس. وبما للأغنية المصورة (الكليب) من قدرات تسويقية جبارة للمنتج الموسيقي (الألبوم)، فإن الربط بين الإعلان والكليب أصبح منطقياً، فكلاهما يستهدف مستهلك افتراضي عبر الصورة لتقييم منتج (مشروب – أغنية)، خاصةً إذا ما وضعنا في الاعتبار أن نمط الإنتاج الفني في كلاهما متوازي، حيث أيام التصوير المحدودة والميزانيات الضخمة، والتركيز على جماليات خاصة بالصورة (بما لا يقارن مع فنون بصرية أخرى). كل ذلك جعل من إخراج الكليب تطور طبيعي لمسار المخرج من الإعلانات، وإن كان هذا لا يمثل القاعدة الأساسية، فهناك مخرجي كليب قدموا من عالم السينما أو تخصصوا منذ البداية في عالم الفيديو كليب وانتقلوا منه إلى السينما والإعلان.

شريف صبري مخرج إعلانات، بدأ في مصر بداية قصيرة منذ نهاية الثمانينات وأوائل التسعينات، بعدها سافر وأكمل مسيرته عبر إحدى وكالات الإعلان البريطانية، خلال أواسط التسعينات حتى نهايتها. وقدم إلى مصر مرة أخرى ليقدم حملات إعلانية ضخمة بعد أن توفر له إعداد وخبرة ضخمة في السوق الأوروبي، ليحدث – كما اعتقد – نقلة تقنية في فن الإعلان، ثم من بعدها وعلى نفس خطواته في مجال الفيديو كليب.
وتعد ملامح تلك النقلة التقنية متبلورة في الكادراج المكثف للإعلان ونمط الإضاءة وتصحيح الألوان واستخدام عدسات خاصة ومؤثرات بصرية كانت في تلك الفترة مدهشة ومؤثرة في مجال الإعلان. أما فيما يخص المضمون الإعلاني عبر اللغة المستخدمة، فقد قدم ديالوجات مكثفة تلعب على مستويات من الوعي غير مباشرة، عبر الإشارة البصرية والكلام المجزأ المتناغم مع صورة موحية. وكان لاستخدامه الخاص لموديلز (فتيات عارضات) من زوايا تصويرية خاصة، الأثر في تدعيم منظومة الأخلاق، التي ترى في صورة المرأة جسداً محمل بكل الإيحاءات الجنسية والبورنوغرافية.

المؤكد أن تعامل الفنون البصرية مع ذلك النموذج السلبي للمرأة، قديم قدم الإعلان المرئي. إلا أن شريف صبري في صوره عن المرأة لعب على المخزون المتحيز ضد المرأة عبر إيحاءات وزوايا تصويرية وألوان بصرية جديدة. ولنتذكر سوياً أول إعلاناته "أكيد بيشرب بيريل"، حيث يعتمد من البداية على ابتكار أشكال أكثر إثارة حسية لعلاقة الرجل بالمرأة، عبر أكبر إيحاء ممكن وبأقل إشارات لغوية، وبترجمة بصرية تدعم ذلك الإيحاء إلى أقصى درجة (زاوية متلصصة)، علاقات تكوينية داخل الكادر، تصحيح للألوان إلكترونياً لدعم الاغتراب المشهدي وتقديمه في صورة أقرب للحلم.

هذه الورقة وعبر مجموعة لقاءات مع متخصصين في مجال الإعلان والفيديو كليب وفنون الصورة، أحاول البحث عن خصائص تحولية أصابت مجال الإعلان والفيديو كليب، عبر تكنيك المخرج شريف صبري. وكيف أثر ذلك فيمن حوله في سوق الإعلان والفيديو كليب، وتقديم تحليل لصورة المرأة في منتج شريف صبري، عبر مجموعة لقاءات مع:
1. شريف صبري.
2. مونتيرين.
3. مخرجين فنيين Art Directors.
4. ستايلستس stylists.
5. مصوريين فوتوغرافيين وفيديو آرت.
6. مدافعين عن حقوق المرأة.
7. مخرجين إعلانات وفيديو كليب.
8. جمهور من الشباب.

وذلك باستخدام نموذج لأعمال شريف صبري كمادة للنقاش مع هؤلاء وعرض نتائج الورقة من خلال محاضرة مدتها 20 دقيقة، مصحوبة بعروض فيديو من نماذج أعماله.

هاني درويش